أن تكون الأخ الأصغر أو الأوسط ـ غير المُدّلل ـ بين أخوين، يخبرانك أنك شقيق الروح عند اتفاقها، وأنه مطلوب منك أن تكون في صفّ أو بمعيَّة أحدهما عند الاختلاف، فذاك قد يكون مَقبولاً على المستوى الأسري، صحيح هو مرفوض في فضاء الدين والقرابة، ولكنه يحدث في كثير من الحالات، لكن أن يكون هذا موقف الدُّول عبر حكوماتها، وتنال خيره وشره شعوبها، فإن ذلك مخيفاَ ومفزعاً، ويشعرك بغياب الأمان، ويدفعك إلى التحايل من أجل البقاء، ويطوعك ـ كُرْهاً ـ لإرضاء الطرفين المختلفين أو المتصارعين، وأحسب أن ذلك ما تعانيه موريتانيا اليوم من جوارها الجغرافي، ومن انتمائها الشعبي لكل من الجزائر والمغرب.
لقد اختارت موريتانيا ـ بوعي ـ منذ استقلالها أن تكون الأكثر رشدا في مواقفها السياسية، فلم تشكل محوراً ثنَائيّاَ مع أيٍّ من الدولتين الجارتين المتنازعتين، إلا في تجربة واحدة مع المغرب لم تعمر طويلا، صحيح أنها في محطات بعينها، وحسب مصالحها الوطنية، أقتربت من هذه وابتعدت عن تلك، ولكنها لم تناصب أيّاً منهما العداء في المطلق رغم الاختلاف معهما حول بعض القضايا أحيانا، كما لم تكن جزءاً من أهداف ومصالح الجزائر والمغرب، مثلما لم تُصدِّر مشكلاتها الداخلية لهما رغم الانقلابات العسكرية التي عاشتها، ولا عوّلت يوما في حل مشكلاتها على طاعة عمْياء لهما، ومع ذلك فقد ظلَّت قريبةٍ منهما وإن لم تكن على نفس المسافة.
في الظَّاهر ليس هناك ما يدفع إلى القول: أن الجارتين ـ الجزائر والمغرب ـ تَجرَّان موريتانيا إلى تبنِّي المواقف المختلف عليها بينهما، لكن في الباطن هناك مراقبة لرد الفعل الموريتاني على ما يحدث من طرف الجزائر والمغرب، ونتيجة لذلك تعاني نواكشوط من شد وجذب بينهما، بل أنها تواجه هذا بشكل مستمر، فإما مد أو جزر لهذه أو تلك، وهي ـ موريتانيا ـ لا تملك حق الرفض أو القبول نتيجة الجوار الجغرافي أوّلاً، والقرابة الدموية ثانيا مع الشعبين الجزائري والمغربي، لإنها إن جاملت هذه أو عاتبت تلك، تعرف تبعات موقفها على المدى القريب، مستندة في ذلك على تجارب مؤلمة عاشتها منذ الاستقلال، بدءًا من عدم الاعتراف بها.
موريتانيا على هذه النحو تحمل في صدور أبنائها” آهات مكتومة”، من توتر العلاقة بين الجزائر والمغرب، وذلك منذ 1975، صحيح أنهم يتحركون في الفضاء المغاربي، والعمق العربي، تسبقهم زفراتهم من” الوضع الجواري” حين يختلون بأنفسهم، لكنهم يخاطبون جيرانهم بلغة يقدمون من خلالها صورة جميلة ـ تمسح القبح المغاربي ــ وبمظهرهم الحضاري المجسد للقناعة، يحسبهم الناظر إليهم أغنياء من التعفف، ولا يسألون الجارتين إلحافا، بل أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، حتى حين تكون بلادهم في أمس الحاجة لدعم الجارتين، وفي حال تمعن ردود أفعالهم لمن أحسن إليهم، فإنهم لا يكتفون بتقدير الجميل، بل يعملون على ردّه إن استطاعوا إليها سبيلاً.
ومن موقع الأخت الصغرى، تجد موريتانيا نفسها في معاناة دائمة من سلوك الجَارتين، ولاشكَّ أن قطع الجزائر علاقتها مع المغرب، قد أثر على موريتانيا سلباً، بل قد تعدُّ أكثر المتضرِّرات بالنظر لعلاقة الجوار مع الجزائر والمغرب، مع أنها هاتين الأخيريتين لم تَنْظرا ـ بغض النظر عن صواب أو خطأ فعل وموقف أي منهما ـ إلى العلاقة مع موريتانيا من موقع الإحسان للجارة منذ استقلالها وإلى الآن، لذلك اتُّهِمَتَا من الدول المغاربية الأخرى، أنهما لم تهتما يوما بالمصالح المشتركة لدول المغرب العربي، لذلك حُمِّلتا وزر فشل الاتحاد المغربي.
موريتانيا صاحبة حق ليس فقط في التنفيس عن آهاتها المكبوتة، وتخرجها حتى لو صعدت بشكل زفرات، وإنما أيضا في الدفاع عن وجودها كونها لا تزال تصارع على الأطراف من أجل دول المركز، ناهيك عن الدول المشتركة معها موقعا وتاريخا على مستوى الأطراف، ولن تحقق ذلك إلا بدعم من الجارتين بعيدا عن خلافاتهما الراهنة، والبدية تكون من فتح المجال أمام دور موريتاني جامع، ينقل المشهد الجواري للموريتانيين من المشاهدة ـ أحيانا إلى درجة الفرجة ـ إلى الاسهام في التقريب بين الجارتين، وهذا يتطلب قبولاً من الجزائر والمغرب يأخذ في الاعتبار التعايش الجماعي بدل السيطرة والزعامة، بعيدا عن أنانية تكرست لعقود، حيث اعتقدت كل دولة أنها الأعز وما سواها مغربيّاً هو الأذل.