سؤال طرحه وزير التعليم محمد عينين ولد أييه في الورشة المنظمة هذه الأيام لمعالجة ظاهرة العنف في الوسط المدرسي، ذلك السؤال الذي تمكن معالي الوزير بموجب خبرته في المجال أن يستله من ركام الأسئلة عن الأسباب المؤدية إلى العنف في الوسط المدرسي،
.
وهذه الظاهرة لا يمكن أن تفصل عن مظاهر فشل النظام التربوي الأخرى، التي ظلت تتجمع منذ ستة عقود هي عمر الدولة الموريتانية (المستقلة) في الوقت الذي هي فيه تسير المنظومة التربوية تقودها من فشل إلى فشل، ليس لها من الأهداف إلا الوصول إلى كم تمدرسي يبرر لها المغالطة في نجاعة الخطة التعليمية المتبعة، دون تفكير في كفاية المحتوى الذي بغيابه أنتجنا أجيالا من (الدينكات) فاقدي الهوية لا عمل لهم سوى تحطيم الأخلاق في الوسط المدرسي الذي كان مقدرا له أن يكون هو مخبر صنع الأمة الراقية، ونحن عاجزون عن أخذ العبر من الدول التي استفادت من منظومتها التربوية حيث تعرفت أهمية التنمية البشرية وأنها هي أضمن الطرق الموصلة إلى النتيجة، لدينا التجربة اليابانية التي أمبهر العالم بها، اليابان الخارجة حديثا من تحت ركام القنابل النووية فإذا بها بعد أعوام قلائل تنافس العملاق الصيني في طريقها إلى منافسة آمريكا، فما كان لآمريكا المعروفة بغيرتها على مستقبلها المحافظة على تقدمها على العالم إلا أن تبحث عن السبب الذي بموجبه وصلت اليابان إلى هذا المستوى، وحين تأكدت من خلال أبحاثها أن تقدم اليابان كان سببه هو النظام التربوي، فما كان لآمريكا إلا استجلاء الأمر، ففي سنة 2009 أسندت أمر البحث إلى جامعة (ابري ستون) العريقة حيث جندت لذلك 63 باحثا متخصصا ورصدت له 40 مليون دولار، واستغرق البحث 148 يوما، حيث توصل بحثها إلى أن سبب تفوق النظام التربوي الياباني هو تركيزه على الأخلاق والتهذيب؛
دولتنا لم تنتبه لخطورة عدم كفاية النظام التربوي إلا بعد بروز ظاهرة العنف في الوسط المدرسي هذه الأيام (إن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي)، عند ما نظمت ندوة لمعالجة العنف في الوسط المدرسي، كان ذلك مناسبة لسؤال وزير التعليم والإصلاح التربوي والتعليم الفني عن سبب العنف في الوسط المدرسي؟ بإمكاننا تلخيص جواب هذا السؤال في سبب أساسي بكل ببساطة هو: انعدام التربية المراهقية في نظامنا التعيمي، وأنتم على علم بأن أغلب ما يجول في الوسط المدرسي هم المراهقون، حيث أن المراهقة تشمل أعمار الأطفال من 11 سنة حتى 21 سنة، وذلك على النحو التالي:
- المراهقة المبكرة من 11 حتى 14 سنة.
- المراهقة المتوسطة من 14 حتى 17 سنة.
- المراهقة المتأخرة من 17 حتى 21 سنة.
والمراهقة هذه هي فترة انتقال الفرد من طور الطفولة إلى مرحلة النضج، وهي مرحلة تكتنفها التأزمات النفسية، التي تسودها المعانات والإحباط، وهذا الواقع يخلق صعوبات ومشاكل للمراهقين مع المجتمع، وحتى مع الوالدين، والمدرسين، ومع الأصدقاء؛
ومع أن البعض قد يمر بهذه المرحلة دون أن يشعر، فإن البعض قد يصاب نتيجتها باضطرابات، وذلك نتيجة لما يتم من إفرازات الغدد وما تسببه في حياة المراهق:
- الحساسية الزائدة، وسرعة التأثر،والتقلب في المزاج، والقلق الزائد؛
- البحث عن الذات، والتساؤل: من أنا؟ ماذا أريد؟ ولمن أنتمي؟
- نمو المفاهيم المعنوية مثل الخير والشر، وغيرها، والتأمل والتفكير في القضايا الدينية؛
- القدرة على التعلم واكتساب المهارات، والقدرة على التفكير، والاستدلال، والاستنتاج؛
- رفض أسلوب المعاملة كطفل، والميل إلى الزعامة؛
- تحدي الآخرين، حتى وإن تعلق الأمر بالأهل والمعلمين.
كل هذه الآثار تنعكس سلبا أو إيجابا على حياة اليافعين، إنها مرحلة هدم وبناء، لإثبات ذواتهم وتأكيد استقلاليتهم حتى عن الآباء؛
في هذه الظروف البالغة الخطورة بالنسبة للمراهق لابد أن يكون أثرها كبيرا على المدرسة التي هو أساسها من الإعدادية حتى الثانوية، يبقى المراهق هو سيد الموقف يصول ويجول في هذا الفضاء المفتوح على العالم بموجب وسائل الاتصال المتوافرة لدى كل من هب ودب، مع أن المدرسة غير متوفرة على الحد الأدنى من وسائل الجذب: مسارح، غرف للمطالعة، قاعات ألعاب، ملاعب رياضية، مرافق نظيفة، توفر الماء والكهرباء، وحتى الأساتذة في أغلب الأحيان غير متوفرين، حينها تتكون جحافل من المتسربين يفوق عددهم عدد الاستبقاء في المدرسة، هؤلاء تسربوا لعدة أسباب من أبرزها:
- غياب المحفزات على التعلم؛
- تقديم المواد المدرسة بلغة أجنبية مما يجعل التلاميذ عاجزين عن تحصيل المعارف، واكتساب المهارات، واتخاذ المواقف؛ وبالخوص المواد العلمية التي أثبتت البحوث الوطنية والدولية عدم فهم تلامذتنا لها منذ أن تم تدريسها بلغة أجنبية؛
- عدم مراعاة حاجيات التلاميذ في ما يقدم إليهم من معلومات باعتبار قدراتهم الذهنية والتحصيلية (أصحاب مواهب- متفوقون- عاديون)؛
هذه الأسباب كل واحد منها كفيل بدفع صاحبه إلى الشارع، حيث تتكون تشكيلات المنحرفين خلقيا من:
- مدمني خمر ومدخنين؛
- ومتاجرين بالمخدرات، ومستعمليها؛
- ممتهني السرقة والحرابة؛
- مؤطري عصابات الإجرام بجميع أنواعه من: قتل، واختطاف، وتحرش، وتغذية للتنظيمات الإرهابية؛
كل هذه التشكيلات كان ميدانها الطبيعي هو الوسط المدرسي، وكل ما يتم فيه من فوضاء وعنف إنما هو استجابة لنزوات شريحة المراهقين، تلك الشريحة التي لم تتوفر لها تربية مناسبة في المناهج التربوية.
ذلكم بقدر من الاقتصار هو الجواب على سؤال السيد الوزير، ويتولد من الجواب عليه سؤال جديد: ما هو علاج هذا السلوك المنحرف في الوسط المدرسي؟ نحاول الإجابة على هذا السؤال باختصار شديد مكتفين باقتراح معالجة لظاهرتين نعتقد أنهما الأشد ارتباطا بالتسرب الذي هو مصدر العنف في الوسط المدرسي:
- إهمال تربية المراهقين؛
- تجاهل حاجيات الموهوبين؛
- أولا: من أجل تربية المراهقين والعبور بهم إلى بر الأمان يتعين علينا القيام بعمل تتضافر فيه جهود الجميع: الدولة، الآباء، المربين، رجال الدين، وقادة الرأي، كل من ناحيته، على أن يكون ذلك في إطار تنظيمي محكم، على الوزارة أن تنشئ بداخلها مصلحة مكلفة بالتربية المراهقية، من مهامها: البرمجة، والتأطير ومتابعة الأنشطة المتعلقة بتربية المراهقين، كما أنها مطالبة بتوفير الإرشادات الضرورية، وإصدار أدلة ترشد الآباء والمدرسين إلى طريقة التعامل مع المراهقين، وبرامج تعليمية تقدم في مدارس المعلمين والأساتذة، وكذلك إدخال دروس في مناهج التلاميذ ابتداء من السنة الرابعة ابتدائية حتى الأقسام الأولى من الثانوية، تقدم هذه الدروس من خلال مقررات: التربية اٌلإسلامية، والتربية المدنية، والرياضة البدنية، ومادة العلوم، هذا بالإضافة إلى تنظيم ورشات دورية، تستهدف المدرسين والتلاميذ، تؤطر من طرف المربين والأطباء ورجال الدين؛ بهذا يتم علاج المراهقة ومحاصرتها من المنبع، والعمل على جودة مخرجاتها.
ثانيا: الموهبة هي ذلك التميز والاستعداد الفطري الذي يخص الله به فئة قليلة من عباده، والتي إذا ما تم اكتشافها ووجدت الرعاية اللازمة يتمكن أصاحبها من النبوغ في واحد أو أكثر من مجالات الحياة، فهذه الصفوة التي حباها الله بهذه الميزة، هم الفئة التي أنجبت العلماء، والمفكرين، والمبدعين، والمصلحين الذين بنوا بعقولهم الأمم، وازدهرت بجهودهم الدنيا عبر العصور؛
ولهذا نرى أن البلاد المتقدمة، هي التي تعرفت أصحاب المواهب والقدرات الفذة من أبنائها، وأتاحت لهم ما يحتاجونه من رعاية، وأدركت أن أبناء الوطن الموهوبين هم وحدهم القادرون على استثمار مصادرها، وإذا انعدمت المصادر الطبيعية لدى أمة فإن إبداعات أبنائها ومواهبهم كفيلة بخلق مصادر بديلة، وذلك ما نشاهده اليوم في بعض المجتمعات أمثال: اليابان، وكوريا الجنوبية مع ندرة مواردهما الطبيعية وما وصلتا إليه من تقدم خير دليل على ذلك؛
أما المجتمعات التي لا تهتم باكتشاف المواهب وتنميتها فقد بقيت متخلفة، وماتت مواهب أبنائها بين جدران المدارس النظامية، وامتلأت سجونها بشباب عباقرة تولدت لديهم ردة فعل إجرامية على تلك البرامج والمواد التي لا علاقة لها بمواهبهم، ولاسيما إذا حسبتمعدلاتهابما تحسب به معدلات الموهبة مما قد يؤدي إلى فشل التلميذ في الامتحان مما يكون سببا في انقطاعه عن المدرسة نهائيا، هذه البرامج الجامدة التي لا تستجيب لقابليات الموهوبين، ولا تساهم في تنمية مواهبهم، والتي تقدم عن طريق التعليم الرسمي الذي يلزم التلميذ بمتابعة برنامج لا فرق فيه بين الذكي والبليد؛ وهذا ما نبه إليه العالم الفيزيائي المعروف"اينشتاين" حيث يقول "إن التعليم النظامي يعيق ظهور العبقرية، فهذه النبتة الصغيرة في روح الطفل بحاجة إلى الحرية، وإشباع الرغبة في الاطلاع، الأمر الذي لا يتوافر مع أساليب التعليم الرسمي الذي لا يتعزز إلا من خلال وسائل القهر".
ومع الأسف تعتبر موريتانيا من الدول العربية القلائل أو الوحيدة التي لم تبذل أي جهد في الكشف عن الموهوبين ولا عن رعايتهم، وذلك مع أهمية الموضوع بالنسبة للتنمية، ومع أن مؤتمر وزراء التربية العرب في اجتماعه المنعقد في طرابلس سنة 1998 أوصى بإعطاء عناية خاصة لأصحاب الاحتياجات الخاصة والذين هم(الموهوبون- والمعوقون) أما المعوق فإنه وجد من الدولة مشكورة ما يساعده على تحسين وضعيته الخاصة وهو لا يتوقع منه أكثر من ذلك، أما الموهوب فلم يحالفه الحظ في الحصول على أي مستوى من العناية، مع أنه لو حصل عليها يكون بإمكانه بناء أمة؛
لا أتوقع منكم الاحتجاج بمدارس الامتياز مع تحفظي على الطريقة التي يتم بها اختيار تلامذتها وحتى طريقة معاملتهم داخلها؛ الموهوبون غير ذلك فهم الفئة النادرة في المجتمع مع أن نسبتها في موريتانيا تتجاوز 2% حسب البحوث والتجارب التي ما فتئت الجمعية الموريتانية لرعاية الموهوبين تقوم بها دوريا منذ تأسيسها سنة 2000 مع أن هذه النسبة مجمعة من مواهب مختلفة كل واحدة منها لها تأثير قوي على حياة صاحبها سلبا أو إيجابا ويتعلق الأمر باكتشافها؛ فإنكم تتذكرون قصة الطفل الذي أعادته المدرسة إلى أمه بحجة أنه بليد لا يمكنه أن يتابع في المدرسة، وبعد أن اكتشف موهبته وقام بتنميتها أصبح هو(توماس أديسون) مكتشف المصباح الكهربائي وأكثر من 100 اختراع آخر.
هذه المواهب صالحة لأن تكون عامل بناء أو عامل هدمحسب التعامل معها، إنكم تتذكرون قصة المصري" رأفت الهجان" الذي كان موهوبا في السرقة فقامت المخابرات المصرية بإعلائها إلى موهبة في التجسس على إسرائيل، والذي تم بموجب هذا الجاسوس اكتشاف الجاسوس الإسرائيلي(كوهين) الذي كان وزيرا في الحكومة السورية، وكذلك توصيف خط برليف الإسرائيلي بما مكن من تحطيمه من طرف الجيش المصري سنة 1973؛
إن المرجو من وزارة إصلاح التعليم هو خلق مكونة تعنى بالكشف عن الموهوبين ورعايتهم، وحسب من خدم الأمر وقتا فإنه مع أهميته لا يكلف جهدا يذكر، فبعد الكشف عن أصحاب المواهب بالطرق المتاحة لم يبق أمامنا إلا تنميتها، وبموجب تشعب هذه المواهب وندرتها يستحيل علينا تكوين فصل من موهبة واحدة، غير أن المواهب تسهل تنميتها داخل الفصول النظامية بإحدى الطريقتين أو هما معا: أسلوب الإثراء أو أسلوب التسريع المتعارف عليهما؛
الأمر لا يحتاج إلى ما هو أكثر من الإرادة الصادقة وأعتقد أن الظروف مواتية لذلك الآن: دولة تجعل إصلاح التعليم من أولوياتها، وجود الشخص المناسب في المكان المناسب: شخصيات وطنية معروفة بخبرتها وتفانيها في العمل من أمثال: الوزير محمد عينين ولد أييه، ومديرة التعليم الأساسي صفية بنت بنبه؛ بموجب هذه الظروف يحق لنا أن نحصل على مدرسة جمهورية منافسة توفر للفرد والمجتمع ما يحتاجانه من أسباب الرقي والأزدهار.