بالنسبة لي، كرجل بدوي بالفطرة، وُلد وترعرع متنقلا في الصحاري من مكان إلى أخر، الحياة والقراءة والكتابة ليست سوى عمليات ترحال دائم، محطاتها متغيرة باستمرار، والطرق بينها كثيرا ما تكون وعرة.
.وحتى إن قضيتُ جل حياتي في المدينة، واكتسبتُ نسبة معتبرة من ثقافة وسلوك أهلها، فإنني أتساءل باستمرار، حسب ما تعلمتُ وورثتُ عن آبائي واجدادي: ما هي الوُجهَة المقبلة وما أفضل سبيل لها؟
والسؤال شامل، ينطبق على فكري ومشاغلي وهواياتي: كيف وإلى أين أسير؟ ما ذا اقرأ، وما ذا اكتب؟
كنت وما زلت مشغوفا بموضوع الإرهاب والمسائل الاستراتيجية، منهوماً على قراءة ما يتعلق بها، مولعا ببحثها ونقاشها. لكن هذا المسار، الذي تعَودتُ أن أسلكه منذ أكثر من عقد من الزمن، يشهد الآن اكراهات بعضها غير مسبوق، تثير شكوكي وتضايقني بشدة احيانا.
إنني أخشى أن يكون نوع من الروتين طال ما انشر، وأن يصيب مللٌ بعضَ المتلقين. لكن هذا أمر عاد، لا مفر منه لمن يمتهنون البحث والكتابة والنشر. فأحرى بمن يتجرأ عليها من الهواة دون سابق انذار! فحتى إن كرر العملية مرات ومرات، فصراعه مع تحدي متلازمة “الصفحة الفارغة” قائم دائما.
غير أن العثرة التي تشغل بالي بقوة الآن من نوع آخر: سُدتْ أبوابُ الاتصالات والاجتماعات الحضورية، بسبب وباء كورونا الذي يحول إلى حد بعيد، منذ قرابة سنة، دون لقائي بشكل مباشر بالخبراء والناس، مع ما لاعتزال بعضنا البعضَ من آثار مجحفة بالتبادل الفكري الحي، وبعلاقات العمل والصداقة الحارة.
ومن جهة أخرى، فقد نجمت عن هذا الحاجز بين البشر ودوافعه المخيفة، مفارقة لا تقل ضررا ولا اضرارا، مثيرةً انتباهَ واهتمامَ كثير من الباحثين والعاملين في الميدان الأمني: بينما قلَّت اللقاءات والاتصالات المباشرة بين الناس، فإن الفكر المتطرف والمضامين الإرهابية لقيتْ في الحظر الصحي ظروفا ملائمة وأكثر أمانا للانتشار بين الشباب. ففي وضع وبائي عالمي، لا سابق له، يطبعه انعزال المرء وابتعاده عن الغير، فإن استخدام الأجيال الصاعدة، المتزايد والمكثف، للأنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، خلَّف آثارا انحرافيه على عقول جزء هام من الشباب؛ انحرافات سلوكية تمثل عواملَ خطر شَكلتْ احدى المحطات الأخيرة لقراءاتي وتأملي.
لكنني لا أريد البقاء عندها. فأين المحطة القادمة؟
وجْهاتٌ كثيرةٌ ترتسم ملامحها أمام عينيَ، بعضها يرتبط بالملاحظة السابقة وكثير منها من نوع مغاير تماما. أيُّ السبل اختار؟
هل ابحث في طرق الانتشار عن بُعدٍ للإرهاب وعلاقة ذلك بوباء كوفيد 19؟ أم في “السلالات” الجديدة والمتجددة لكل من المرضين: لفيروس كورونا ولأنماط ومجموعات الإرهاب المتعددة وعلاقاتها المتغيرة باستمرار؟
هل اعمل على استخراج نقاط تقاطعٍ أخرى بين الظاهرتين؟ أم أوجِّهُ قراءتي وتفكيري في منحًى من نوع آخر؟
(يتواصل).
البخاري محمد مؤمل