لقد طلب مني صديقي الدكتور قيس العزاوي أن أشارك في الندوة التي يقيمها الصالون الثقافي العربي تحت رئاسة الأستاذ يحي الجمل بمناسبة صدور كتاب جديد للدكتور صلاح فضل تحت عنوان "عين النقد".
.
ولما كان الأمر يتعلق بمناقشة "السيرة الفكرية" لأحد أبرز أساتذة الأدب العربي المعاصر فقد أعتذرت عن تناول الموضوع من منظور أكاديمي بسبب إلمامي المتواضع بالنقد الأدبي و تهيبي من مجاراة كبار الكتاب و المتخصصين المشاركين في الندوة من أمثال الاخوة الاعزاء الدكتور جابر عصفور و الدكتور مصطفى الفقي و الأستاذ محمد الخولي و الدكتور خالد زياده، و آثرت أن تقتصر مداخلتي على سرد بعض الخواطر التي أوحت بها إليّ قراءتي في كتاب "عين النقد" و هي الخواطر التي تعود بالذاكرة إلى أيام سلفت عندما كنت سفيرا لبلادي في المملكة الاسبانية خلال فترة دامت قرابة ثلاث سنوات أيقظت ذكرياتِها في نفسي كتاباتُ الاستاذ صلاح فضل عن هذا البلد الجميل.
و إذا كان الكتاب يختزل مسيرة طويلة حافلة بالعطاء الفكري و الأدبي المتواصل فإن الفصول التي خصصها المؤلف لمقامه في اسبانيا متنقلا بين مؤسساتها الثقافية و مدنها التاريخية تتميز بنكهة خاصة تجمع بين الافادة العلمية و المتعة الأدبية.
فكم غمرتني البهجة و أنا أكاد أشتم عطر الأندلس من ثنايا صفحات الكتاب و يحملني خيال الذكريات إلى أزقة طليطلة المزدانة بأزهار الصنوبر و مساجد قرطبة المفعمة بأريج البرتقال و الليمون و قصور غرناطة السامقة بين حدائقها الفيحاء.
بيد أن أكثر ما شدني في ما كتبه صلاح فضل عن تجربته في اسبانيا هو دعوته إلى ضرورة إعادة النظر في بعض المسلمات التي تعيق فهمنا لتاريخ و ذهنية الشعب الاسباني، و من ضمن هذه المسلمات الاعتقاد السائد بأن العرب طُردوا من الأندلس عن بكرة أبيهم على يد الملك فليب الثالث في بداية القرن السابع عشر.
و يؤكد المؤلف خلافا للفكرة المتداولة أن الذين طردوا من الأندلس حينذاك ليسوا سوي أشتات من المورسكيين بقوا في غرناطة بعد سقوط المدينة في يد القشتاليين سنة 1492 ميلادية، وهم مسلمون منحدرون من أعراق عربية و أوربية امتزجت و تداخلت فيما بينها خلال قرون طويلة من الزمن، أما العرب فلم يخرجوا قط من الأندلس وإنما "اضطروا تحت قهر محاكم التفتيش إلى الذوبان في الجسد الاسباني" على حد تعبير الأستاذ صلاح فضل. و بذلك يكون السكان الحاليون لشبه الجزيرة الايبرية منحدرين بشكل أو بآخر من سلالات عربية تغير دينها و تبدلت لغتها وانصهرت في الثقافة الاسبانية انصهارا تاما. و لعل إدراك هذه الحقيقة التاريخية هو الذي جعل الكثير من الاسبانيين يعيدون اكتشاف جذورهم العربية وينظرون إلى تاريخهم نظرة مختلفة و كأنهم يسعون الى استرجاع جزء مفقود من هويتهم و شخصيتهم الثقافية.
وقد ساعدتني الاسنتاجات التي توصل إليها المؤلف بهذا الخصوص على فهم بعض المواقف التي مرت بي أُثناء إقامتي في اسبانيا و مكنتني من استجلاء الأسباب الكامنة و راء بعض المسلكيات التي كانت تثير دهشتي و لا أجد لها تفسيرا مقنعا.
أذكر أنه كان لدي - قبل مجيئي الى اسبانيا - انطباع راسخ بأن الاسبان لا يعجبهم في تاريخهم الجزء المرتبط بوجود المسلمين فى الأندلس و كنت أعتقد أنهم لا يرغبون في كل ما من شأنه أن يذكرهم بانتصارات العرب و المسلمين في حروبهم مع المسيحيين في اسبانيا. و قد يكون هذا الانطباع عائدا إلى فكرة مسبقة تولدت لديّ قياسا على طريقتنا نحن العرب في التعامل مع ماضينا إذ درجنا على أن نبالغ في تمجيد انتصاراتنا و أن نتحرج من ذكر هزائمنا و انكساراتنا و الامثلة على ذلك كثيرة في تاريخنا القديم و المعاصر على حد سواء، و لكن معايشتي للاسبان ما لبثت أن كشفت لي أن الأمر مختلف تماما بالنسبة لهم.
بعد أشهر قليلة من وصولي الى مدريد وفي أحد أيام الربيع الجميلة من سنة 2008، تلقيت مكالمة هاتفية من رئيس الأركان العامة للجيوش الاسبانية الجنرال سانس رولدان Sanz Roldan و كان حينئذ الشخصية العسكرية الثانية فى اسبانيا بعد الملك خوان كرلوس الأول القائد الأعلى للقوات المسلحة الاسبانية، و دعاني إلى تناول الشاي فى مكتبه مشيرا إلى أنها دعوة شخصية لا تكتسي أي صبغة رسمية، وفي الواقع فقد فاجأتني دعوته لأنه لم تكن لي سابق معرفة بالرجل و لم أكن على علم بوجود ملف من ملفات التعاون العسكري بين البلدين في ذلك الوقت يستدعي الاجتماع برئيس الأركان الاسباني.
و لما ذهبت إليه استقبلني بحفاوة في مكتبه الواقع على مقربة من شارع " الباسيو دي كاستيانا " حيث يحلو جو العاصمة الاسبانية عندما تورق الأشجار و تتفتح الأزهار على جنبات شوارع مدريد و ميادينها الفسيحة. وجدته قد نثر على طاولة مستديرة وسط مكتبه خرائط قديمة لقرية صغيرة اسمها Ucles "أقليش" تبعد 90 كم عن مدريد. قال لي إنها مسقط رأسه وأن لها خصوصية تاريخية هي سر دعوته لي. أخبرني و هو يشير إلى إحدى الخرائط أنه فى هذا المكان بالذات قبل تسعة قرون - وبالضبط في 29 مايو 1108 ميلادية - دارت معركة فاصلة بين المرابطين والجيش الاسباني .
وأخبرني أنه ينوي تنظيم حفل خاص لتخليد ذكرى مرور تسعة قرون على هذه معركة التاريخية و أنه يأمل أن يتم احياء هذه المناسبة بحضور ضباط من الجيش الموريتاني ، و أسرّ إليّ أنه تعمد ألا يدعو غير الموريتانيين لأنه يعتبرهم أحفاد المرابطين و ورثتهم الحقيقيون.
فشكرت الجنرال رولدان ووعدته بالرد سريعا بعد الحصول على موافقة السلطات المختصة في بلادي .
تصورت طبعا أن المعركة انتهت لصالح الأسبان إذ لم يدر بخلدي أن قائد الجيش الاسباني يمكن أن يسعى بكل هذا الحماس إلى احياء ذكرى هزيمة أسلافه !
و كم كانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت أن الجيوش الاسبانية هي التي منيت بهزيمة نكراء في معركة "أقليش" على يد جيش المرابطين بقيادة الأمير تميم بن يوسف بن تاشفين. و قد قتل في المعركة سانشو الفونسو ولي عهد ملك قشتيلية الفونس السادس الذي لم يشارك في القتال بسبب كبر سنه و كان عمره حينئذ سبعة و سبعين عاما.
و يكاد يجمع المؤرخون على أن "أقليش" تعتبر بعد معركة الزلاقة من أعظم انتصارات المسلمين فى الأندلس .
و بالفعل حضر وفد عسكرى موريتاني حفل ذكرى مرور تسعة قرون على معركة " اقليش" وضم الوفد كلا من العقيد الطيب ولد محمد محمود والعقيد ولد ابراهيم بالإضافة إلي العقيد لمام ولد دحمد بوصفه الملحق العسكري بسفارة بلادنا في مدريد و حرص الجنرال فلكس رولدان على أن تحضر الى جانب الضباط الموريتانيين مفرزة من الجنود الاسبان يمثلون المحاربين الاصليين بزيهم و سلاحهم القديم. وخصص التلفزيون الاسباني برنامجا للمناسبة أشاد فيه بالعلاقات الثقافية و التاريخ المشترك بين البلدين.
يروي الدكتور صلاح فضل في كتابه "عيون النقد" تجربة مشابهة مرت به عندما كان مديرا للمعهد المصري للدراسة الاسلامية في مدريد و دعته احدى المدن الاندلسية الواقعة بجوار " اليكانتي" الي المشاركة في مهرجان سنوي ينقسم فيه شباب المدينة بين معسكرين يمثل أحدهما الجيوش الاسبانية الغازية من الشمال و الآخر القوات العربية المدافعة عن مواقعها خلال حروب الاسترداد أو " الركونكستا " ، و يتبادل المعسكران النصر و الهزيمة بنفس الاندفاع و الحماس.
إن الاحتفال بمعركة " اقليش" التي هزمت فيها الجيوش المسيحية و تنظيم المهرجانات التي تحتفي بالتاريخ الأندلسي دون تمييز مؤشرات تدل على أن قيم التسامح و الانفتاح بدأت تحل محل التعصب و الكراهية في اسبانيا الجديدة.
و لا يمكن في اعتقادي تفسير تحرر الاسبان من عقد الماضي إلا بالنظر إلى ادراكهم المتنامي بأن تاريخ الاندلس بكل مراحله ملك لهم و شعورهم المتزايد بانتمائهم الكامل إلى أجدادهم الاندلسسين مصداقا لمقولة الدكتور صلاح فضل المثيرة " إن العرب الذين فتحوا الاندلس لم يخرجوا منها حتي اليوم " !
الصالون الثقافي
القاهرة فبراير 2013
سيدي محمد ولد بوبكر