يصادف اليوم السبت الــ11 من أبريل/ نيسان الذكرى الأولى لسقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بثورة شعبية عظيمة صمدت في وجه آلة من القمع والعنف المفرط طيلة 6 أشهر قدّم خلالها الشباب السوداني تضحيات جسام تمثلت في مئات الشهداء والحرجي والمصابين.
.
حالة الإحباط وعدم الرضا ما زالت تسيطر على جموع الشعب السوداني، فبعد عام كامل من سقوط الطاغية لم يتغير أي شيء على أرض الواقع، بل إن الأوضاع ازدادت سوءً عمّا كانت عليه أيام المخلوع نتيجة لعوامل عدة داخلية وخارجية، أولها قبول قوى الحرية والتغيير بتقاسم السلطة مع عسكر اللجنة الأمنية للنظام البائد برئاسة الفريق أول عبدالفتاح البرهان وعضوية قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” وعدد من جنرالات النظام البائد.
كانت وجهة نظر الحزب الشيوعي السوداني صائبة تماماً عندما أعلن رفضه للوثيقة الدستورية الكارثية التي تم توقيعها بين قوى الحراك المدني والمجلس العسكري المحلول، فالاتفاق مَنَح عسكر النظام البائد سلطة مطلقة على الأجهزة الأمنية والعسكرية، واعترف بمليشيا الدعم السريع ذات السمعة السيئة في ارتكاب المجازر المروعة في إقليم دارفور غربي البلاد، فضلاً عن أن التحقيقات الدولية أثبتت قيادة المليشيا لمجزرة فض الاعتصام العام الماضي بمشاركة قوة من الشرطة وجهاز الأمن وبتعليمات مباشرة من قادة المجلس العسكري الموجودين حالياً في المجلس السيادي.
استغلّ هؤلاء الجنرالات فرصة صلاحياتهم الواسعة لعرقلة عمل الحكومة المدنية برئاسة السيد عبدالله حمدوك من خلال سياسة افتعال الأزمات وإغراق البلاد في أتون الفوضى وارتفاع أسعار السلع الأساسية وتضاؤل قيمة الجنيه أمام الدولار الأميركي بصورة غير طبيعية كما يقول الكاتب المرموق الفاتح جبرا، فالاقتصاد العالمي متوقف نتيجة لأزمة فيروس كورونا ولا توجد أي حركة تجارية ولا حج ولا عمرة ولا سياحة، رغم كل ذلك يرتفع الدولار بشكل يومي، وهو ما يثير الريبة في أسباب هذا الارتفاع المضطرد الذي يدل على تواطؤ العسكر على الأقل إن لم يكن التورط.
وحتى نكون منصفين فإن الحكومة المدنية ورغم التحديات التي تواجهها تتحمل نصيباً ــ وإن كان أقل ــ من مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية، بسبب الكوادر الضعيفة التي أتت بها محاصصة قوى الحرية والتغيير في التشكيل الوزاري، فقد بدا الفشل واضحاً في أداء وزير التجارة والصناعة مدني عباس الذي أصرّ على تولي الحقيبة الوزارية رغم مطالبة الناس له بالاعتذار، كما تدور شبهات الفساد في العقد المريب الذي وقّعه وزير المالية إبراهيم البدوي مع شركة الفاخر ومنحها بموجبه حق تصدير الذهب، وهناك تساؤلات أيضاً عن غياب وزير الزراعة الذي لا يعرف أحد اسمه.
ولكيلا لا أُتوّه القارئ الكريم بفتح ملفات الشراكة العرجاء، فإنني سأخصص هذه المساحة للحديث عن التصعيد الجاري في ملف الحدود بين السودان وإثيوبيا، وكيف أن عساكر السودان دفعوا البلاد للمواجهة مع إثيوبيا متذرعين بمشاكل الحدود القديمة والتي يعود تاريخها إلى سبعينيات القرن الماضي.
قبل أن نخوض في التفاصيل يجدر بنا أن نؤمن أولاً على حق السودان الكامل في السيطرة عليه أراضيه من حلايب إلى الفشقة وأبيي، هذه قضية لا خلاف فيها بين السودانيين على الإطلاق، ولكن يبدو أن جنرالات السيادي وعلى رأسهم البرهان وحميدتي يتحركون وفق هوى المحور الذي يدينون له بالولاء، فقد استغلّ رئيس المجلس السيادي المشكل الحدودي القديم بين السودان وإثيوبيا ليقوم بزيارة إلى الحدود ويدلي من هناك بتصريحات فُهمت على أنه يقصد بها إثيوبيا، إذ قال “هدفنا حماية أراضينا ومواطنينا علي امتداد حدود السودان في كل مكان وهذا واجب القوات المسلحة المقدس الذي لن تفرط فيه أبدا”.
التصريح إذا جاء في ظروف طبيعية وفي غير هذا المكان لا غبار عليه مطلقاً، لكن من الواضح أنه اختار التوقيت والمكان ليرسل رسائل سلبية إلى الجارة إثيوبيا، وهو ما دفع العديد من السودانيين للتشكيك بنوايا رئيس المجلس السيادي فقد تجاهل المشكلة الحدودية الأكبر وهي قضية حلايب التي يرى السودانيون أنها واقعة تحت احتلال مصري كامل منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، بينما الوضع في الفشقة على الحدود مع إثيوبيا مختلف تماماً، فأديس أبابا معترفة بسيادة السودان على المنطقة، ولم تدعي ملكيتها لها في يوم من الأيام فضلاً عن أن الملف شائك ويتضمن أراضٍ زراعيةٍ قام بتأجيرها سودانيون لمزارعين إثيوبيين وبعقود طويلة الأجل.
صحيح أن مليشيا الشفتة الإثيوبية تعتدي على أراضي الفشقة الصغرى، بهدف تغيير التركيبة السكانية والاستيلاء على الأراضي الزراعية بتواطؤ من أطراف إثيوبية وسودانية على حدٍ سواء، لكن كان يمكن حل القضية بسهولة وذلك بالتواصل مع الجانب الإثيوبي وحثّه على تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين والمتعلقة بتجديد رسم الحدود ونشر القوات المشتركة.
ويبدو أن البرهان أحسّ بأنه استعجل الخطوة التصعيدية، فقد بادر يوم الخميس إلى الاتصال برئيس الوزراء آبي أحمد الذي كشف أن المكالمة التي تلقّاها من البرهان تناولت جهود مكافحة فيروس كورونا والتعاون الاقتصادي بين البلدين إلى جانب ملف رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ولم يرد أحمد أن يوضح أن الاتصال تناول قضية الحدود.
صباح الجمعة اتخذت إثيوبيا خطوةً ذكيةً أخرى بإرسال وفد عسكري رفيع يقوده رئيس الأركان الجنرال آدم محمد محمود إلى السودان حيث اتفق الجانبان السوداني والإثيوبي على تنسيق مشترك لتأمين الحدود المشتركة بين البلدين، ووضع التنسيق اللازم لمكافحة الجرائم العابرة. وأدلى رئيسا الأركان السوداني والإثيوبي بتصريحاتٍ إيجابية تؤكد عمق العلاقة بين الخرطوم وأديس أبابا.
إلى هنا الأمر يبدو أشبه بالنهاية السعيدة، وقفل الباب أمام مساعي البرهان ورفيق دربه حمديتي لدفع السودان وإثيوبيا إلى أتون المواجهة تحركهم الرغبة في نصرة الجنرال السيسي الذي غضب من موقف السودان الداعم للسد الإثيوبي، لكننا سنستعرض ثلاث نقاط تؤكد لنا أن الطريق ما يزال بعيداً أمام إنهاء أزمة تدخل العسكريين في ملف العلاقات الخارجية للسودان:
1/ التفاهم الذي تمّ بين رئيسا الأركان السوداني والإثيوبي على تأمين الحدود يحتاج إلى إرادة قوية لتطبيقه. فمنذ العام 2013 وإلى اليوم جرت العديد من التفاهمات والاتفاقات على تأمين الحدود وضبطها من دون يتم ذلك على أرض الواقع، لوعورة المنطقة الحدودية وكثرة نشاط العصابات والمليشيات التي تسرح وتمرح بمساعدة نافذين. فإذا لم ينفذ الاتفاق قد يعود التوتر إلى الحدود كما كان يحدث سنويا.
2/ نُشر خطاب مسرّب على نطاق واسع يحمل توقيع مدير الجمارك السودانية ويفيد بأن نائب رئيس المجلس السيادي “يقصد حمديتي” وجّه بفتح المعابر البرية مع مصر بعد إغلاقها بواسطة مجلس الوزراء. مع أن حميدتي لا يملك أي صلاحية تخوله لإصدار قرار كهذا، فالجمارك تتبع لوزارة الداخلية ويفترض أن يكون مسؤولاً عنها رئيس الوزراء، هذا فضلاً عن أن منصب نائب الرئيس غير موجود في المجلس السيادي على الإطلاق، إذ نصّت الوثيقة الدستورية على منصب رئيس المجلس ويتناوب عليه العسكريين والمدنيين، إلى جانب أعضاء المجلس من طرفي الاتفاق.
ولكن يبدو أن حمديتي يقدّم هو الآخر مصالحه الشخصية مع السيسي فقد زاره قبل أقل من شهر، بعد أيام على موقف السودان من سد النهضة الذي أغضب الحكومة المصرية، ويُقال إن هناك مصالح شخصية لحمديتي مع الجانب المصري تتمثل في شركته الخاصة “اتجاهات” التي تعمل في تصدير الماشية إلى مصر. وبالتأكيد لن يفوت السيسي ومخابراته فرصة علاقتهم الشخصية مع دقلو لأجل تحقيق أهدافهم في السودان، ومن بينها محاولة إشعال الجبهة الشرقية مع إثيوبيا.
3/ النقطة الأهم والأكثر خطورة.. وهي استيلاء قوة من الجيش السوداني على مبنى الإدارة العامة للدراسات ونظم المعلومات في وزارة الري، ومنعت القوة العسكرية الموظفين من مزاولة عملهم. الخطورة تكمن في أن الادارة العامة للدراسات هي المكّون الأساسي لنظام دعم المعلومات في وزارة الري لكون الوحدة تتضمن دراسات المشروعات الزراعية المصاحبة للسدود القائمة والمقترحة وبيانات مشروعات حصاد المياه ومياه الشرب. وفق ما صرّح به مديرها عبدالرحمن صغيرون.
التبريرات التي حاول أن يقدمها المتحدث الرسمي باسم الجيش غير مقنعة على الإطلاق، فعندما يقول إن القوة نفذت تعليمات عسكرية باستلام مبنى بحوث الري لم يذكر طبيعة الجهة التي أعطت التعليمات ولا أسبابها، مما أثار الريبة والشكوك في أن تكون الخطوة تمهيداً لتسليم بيناتها الخطيرة إلى الجانب المصري بهدف بحث كيفية استغلال جانب من حصة السودان المائية بعد اكتمال تنفيذ سد النهضة الإثيوبي.
إذ كشف مدير الوحدة أن منظومة بيانات الإدارة تضم 11 مخدم سيرفر تكفي لتشغيل 150 مستخدما منها مُخدمين لتحقيق هوية الدخول لكل مستخدم ومثلهما لبرامج النسخ الاحتياطي والحماية من الفيروسات، وتبلغ السعة التخزينية الكلية ( 180 تيرا بايت) منها 100 تيرا بايت لحفظ المعلومات وأوضح أن أجهزة الربط الشبكي بالألياف الضوئية تمكّن من الاتصال بالنظام من المكاتب الخارجية مثل رئاسة الوزارة بالخرطوم وإدارات الري بولاية الجزيرة، بجانب نظام تكييف ونظام لاستقرار التيار الكهربائي ومولد احتياطي يعمل أوتوماتيكيا عند انقطاع الإمداد فضلا عن نظام لمكافحة الحرائق وكاميرات مراقبة.
هذا غيض من فيض الشراكة العرجاء التي قبلت بها أحزاب الهبوط الناعم مثل حزبي الأزمة والمؤتمر السوداني، ورفضها الحزب الشيوعي الذي هاجمه البعض عندما رفض الوثيقة الدستورية، فقد بدأت نتائجها تظهر للعيان.. تمكُّن العسكر إغراق البلاد في الأزمات المتلاحقة بهدف التمهيد لانقلاب عسكري جديد، إلى جانب تدخلهم في ملفات تعد من صميم اختصاص مجلس الوزراء مثل العلاقات الخارجية حيث لم تعجبهم السياسة التي يقودها رئيس الوزراء حمدوك والتي تهتم بمصلحة السودان بالدرجة الأولى بعيداً عن المحاور وتقاطعاتها.
ما يميّز الشارع السوداني أنه واعٍ ومدرك جيداً لمخططات العسكر لذلك لم تنجح معه محاولات البرهان الهادفة إلى دغدغة مشاعر الناس بتصريحه عن أن القوات المسلحة لن تفرط في أمن البلاد وحدودها، فقد ردّ عليه كثيرون بدعوته إلى إجراء زيارة مماثلة إلى حلايب وإلقاء خطبة عصماء من هناك عن عدم التفريط في أراضي السودان وحدوده. نلفت إلى أن جزءً كبيراً من هذه التعليقات جاءت على صفحات المجلس السيادي بمواقع التواصل الاجتماعي.
بُحّ صوتنا ونحن ندعو رئيس الوزراء السيد عبدالله حمدوك إلى أن يصارح الشعب السوداني بالعراقيل التي يضعها عساكر البشير أمام الحكومة المدنية، وبتشاكسات أحزاب قوى الحرية والتغيير، فهذا أمر لابد منه وإلا فإن الخروقات ستستمر والأوضاع تزداد سوءً حتى تشكل أرضية خصبة للانقلاب العسكري الجديد وما ذلك ببعيد.
_____________________
*كاتب سوداني