بعد عمر طويل، حط الرحيل .. بعد أن تحقق حلمه وجادت عليه السماء بما كان يلهث وراءه من المال ويعشق من الغلمان. أهدى كوخه لسنمار دربه. وتبرع بعولته على
الأشعب جاره.
أحرق جميع أغطيته. وتصدق بملابسه البالية على فقيه حارته نوح.. لم يترك غير قميص عمه "حمو" و سروالا روميا ورثه عن شقيقه المقيم في "كاتالونيا"
وحذاء فريدا أهداه إياه جده "محند" الملقب ب"الغوتي"، الذي مات حسرة على حاله،
وهو ذاك الزعيم الأندوشيني. كانت الفرحة تفوق التصور. الواقع الجديد أجل وأعظم من أحلام كبيرة، راودته قبل سنين طويلة، ظل فيها ملتصقا بالكراسي الخشبية حتى اهترأت مؤخرته. كان يردد دائما بعد ختم كل دعاء، رغم قلة نيته وفساد عقيدته، اللهم أغثنا بكرمك وجودك. فكان له ما كان من شأن تلوكه ألسنة الأعداء قبل الأصدقاء. لم يمهل الزمن برهة للمكاشفة … بسرعة البرق، قص شنبه الكثيف المنتفض. وتخلص من شكله القديم
وزوجته "شامة"، وتبرأ من والدته المعتوهة. وأعدم ماضيه وكل جميل في ذاكرته ، رغم أن اللقطاء، كما كانت تردد دائما جارتنا " اعويشة "، هم الوحيدون الذين يحق لهم
أن يتنكروا لماضيهم، لأنهم، أصلا، لا ماضي لهم ...لكن، لهم الله حسب مدونة الأسرة،
كما هو لنا جميعا. آثار نعمة العهد الجديد بادية على تقاسيم جغرافية وجهه الأجوف الطويل.. لا يدخل المسجد إلا مرغما لقضاء الحاجة، أو منافقا لأداء صلاة بعض رجال السلطة... لقد عرف الله هذا العفريت النفريت مرتين: الأولى حينما كان معدما يقتات بما عافه صاحبه نوح، فقيه المسجد الذي ضاجع جميع نساء الحارة. والثانية حينما فعل "حزب الله" فعلته
في جنود "المارينز".
وقتذاك، التمس من الفقيه "نوح" أن يحدد له موعدا مع )...( ليعرض عليه طلبه للانضمام إلى حزبه. فشتمه الفقيه وهجاه وقبح فصيلته. وطلب من الله أن ينزل عليه لعنته وغضبه، ويمسخه ليستحيل قردا أجرب. والقرد في مخيلة جدتي، رحمها الله،
أصله إنسان، لكن الله مسخه لأنه توضأ باللبن). ! ). بات يبحث عن المكانة اللائقة ب"الشخشية" الجديدة، ويرغب في أن يكون "شياشيا" كبيرا بمنطق بعيد عن حساب الايدولوجيا... وتيقن أن ذلك لن يتأتي إلا بالرحيل..
الرحيل إلى مكان جديد .
وقبل أن يرحل ذات مساء يوم بارد سألته عن السياسة، فأجابني: هي كثرة الكلام وتفنن "التمقليع" وأشياء أخرى.. وما هي هذه الأشياء الأخرى؟... هي الغموض
والاعوجاج وتوزيع الوعود والإكثار من موائد الدجاج.. قلت له ماذا ينقصك؟ قال: بعضا من البرلمان وشيئا من الأوسمة وكثيرا من "التقار".
الحسن عبد الرحمن بنموساتي.
باريس/فرنسا