ذهبت مرة إلى السفارة الموريتانية بالقاهرة بغية إنجاز معاملة ورقية فدخلتها خائفا أترقب كما هو شأني عند ما أدلف إلى واحدة من تلك المحصنات المكفهرة في وجه من ابتلاهم ربهم بدم معارض.
.
وعندما قدمت نفسي وتعرف علي بعض الموظفين دخل في خلوة الاستئذان المألوفة ثم عاد منها مبسوط الأسارير قائلا السفير يبلغكم السلام ويطلب لقاءكم ثم اتصل بي السفير هاتفيا وعرض علي اللقاء في بيته فأشفقت عليه من ضيق عطن الحاكمين معتذرا بضيق وقتي
لكنه أصر على اللقاء فكان وقد كنت أسمع عن سيدي محمد ولد ببكر ولم أتشرف بلقائه قبل فأعددت نفسي لجلسة مع مسؤول كبير تقلب في المناصب العليا سليل ثقافة الدولة العميقة والذي تلقى من التقارير عني ما يكفي لاعتباري أجرب منحوس الطالب
مثل فرارك أخي من الأسد فهو أشد وأشد وأشد.
إلا أن الرجل استقبلني منشرح الصدر طلق المحيى ينضح بالبشر والترحاب وبتواضع جم وخلق رفيع بسط لي فرش الترحاب وخلع علي رداء العطف وكرم الضيافة ودخل بدون تكلف في حديث شيق منساب بالفكر العميق والثقافة الواسعة والأدب الثر الغزير وجاء حديث لا يمل سماعه سواء علينا نثره ونظامه
وقرب إلي سفرة تشبه سفرة النفس الزكية أيام العباسيين، فأنعم بما حوى المجلس من طرف الحديث وطرائف النوادر ودرر العلم والنقاش الرصين، بحديث فيه من اللغة وأخلاقها العذب النمير وفيه من الدبلوماسية لحاف لا يشف عن غير المسؤولية واللباقة
انبهرت بما من الله به على سعادة السفير من رصانة العلم وسعة الاطلاع وصواب التحليل لقضايا الأمة وسر تخلفها كان لي زملاء أسمعهم يبالغون في دماثة خلق الرجل وسعة معرفه.
وككل المعارضين البعيدين عن ذلك الصنف من رجال الدولة كنت أشكك في أن زمن التجريف الأخلاقي قد ترك لنا صبابة من خير بين ذلك الوسط وعالمه المتلاطم الرهيب تذكرت في تلك الليلة الماتعة قول المتنبي
وأستكثرُ الأخبارَ قبلَ لقائهِ ... فلمّا التقينا صغّرَ الخبرَ الخبرُ
إلا أن سعادته غفرالله له غرر بي عند ما دخل في حديث عميق عن الدولة ومفهومها الخادم للجميع وضرورة تشاركنا جميعا في رسم صورتها الزاهية لأمر الذي لن يتم ونحن ننفر من مؤسساتها وألح سعادته على ضرورة أن يخبر أيا كان من المشاركين في المؤتمرات السفارة في البلد المتجه نحوه وأن السفارات من صلب عملها تأطير تلك المشاركات وإفادة البلد من ما يمكن فكنت أستمع إليه كما قال السابق
لك في المحافل منطقٌ يشفي الجوى ... ويسوغُ في أذن الأديب سلافه
فكأنّ لفظكَ لؤلؤٌ متنخّلٌ ... وكأنّما آذاننا أصدافه
ثم بعد الانتخابات النيابية سافرت إلى( نكراقوا) في عمل يأخذ من الوقت أسابيع فتذكرت مقالة السفير الموقر وعلمت أنه ليس في تلك الدولة من كثافة الجالية الموريتانية ما يحرج سعادة سفيرنا هناك فاتصلت به وأخبرته أنني النائب فلان موجود هنا لأسابيع
تلعثم سعادته واختلطت في فمه الحروف وبعد أن شرق بريق المفاجأة استجمع قواه ورد علي السلام بعد أن غابت من قاموسه الدبلوماسي عبارات المجاملة المعهودة على ألسن الدبلوماسيين أحسست بمعاناته وهو يكابد تجميع أحرف تخلصه مني كأن كلامي حبل مشنقة يجره نحو الردى أو أنه مسجل وسوف يعرض على ولي نعمته تذكرت الحديث من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة فعاجلته بالقول أنا لله الحمد في نعمة وليست لي حاجة وإنما مجرد الإخبار لقد أخبرني البعض بأن علي إبلاغكم بوجودي وأستغفر الله مما جنت يدي وأتوب
وناب عني بن زيدون
إن كان قد عزفي الدنيا اللقاء بكم في موقف الحشر نلقاكم ويكفينا
قدر الله أن سفير (تشيلي) السابق في موريتانيا كانت لي به علاقة صداقة قوية وكان رجلا أديبا ذربا خلوقا يحسن صنعة السفارة وكان أيام مقامه في نواكشوط يرتاد بيتي بتواضع ونشترك الموجود وقد أخذ علي عهدا عند وداعه إن زرت مقام سفارته أن اتصل به ففعلت وما إن سمع صوتي حتى ملأ علي الجو ترحابا وفرحا ثم دعاني لنشرب الشاي الموريتاني الذي ما زال يحتفظ به
ومن خلاله يتذكر طيبوبة شعبنا وكرمه اتفقنا على الثامنة مساء وأرسل إلي سيارته الشخصية وعند باب بيته وجدته مستبشرا محييا وكانت دهشتي عندما دلفت إلى المجلس فإذا به يقدم لي أصحاب السعادة نخبة السفراء العرب وبعض ممثلي المنظمات ومن بينهم السفير الموريتاني ثم صاح السفير فيهم إنه صديقي فلان وأجلسني في صدر المجلس وقد انتهت الجلسة وأنا في غاية الإحراج من مخافة أن أكون سببا في تكدير صفو سفيرنا المؤتمن ولذلك قررت بالإجماع الامتناع عن الحديث طيلة فترة العشاء حتى لا أحرجه
يعود سعادة السفير الدكتور سيدي محمد ببكر بسجل مشرف من العلاقات والخبرات المتراكمة المفيدة له ولوطنه فنرجو له عودا حميدا وتوفيقا وعاقبة حسنى
وطاب مقاما بالمقام ومرحبا وخالص ود ليس يبلى ولا يفنى
هذه خواطر تحية ووفاء تقصر عن أدب وفصاحة ودقة القاضي الأديب أحمد ولد المصطفى الذي له الفضل في السبق والأجر في التنبيه.