لا تكاد تقرأ لأحد من كتاب القصة الموريتانيين المعاصرين حتى تجد نفسك عالقا وسط حشد من الأسماء والمصطلحات التي تحيل إلى مجالات متباينة ومتباعدة إلى الحد الذي لا يمكنه إخفاء تورط الكتاب في المراهنة على خلق حالة من التشويق، اعتمادا على مبدأ تشتيت الانتباه عوضا عن استخدام تقنيات التوقع وكسر التوقع، والتحليل النفسي الاجتماعي، والتصاعد الداخلي للنص، والحبك الدرامي لمتن الحكاية..
.لقد أصبح قارئ القصة الموريتانية اليوم مدركا بحكم الخبرة، أن عليه الاستعداد للتعامل مع أكثر المشاهد صخبا وتناقضا وفوضوية ولا منطقية أثناء القراءة التي يفترض أن تكون معينة على التركيز الذهني وتوجيه العقل إلى اكتشاف أشكال من الانتظامات العميقة، الحقيقية والممكنة للعالم.
إن وجود الرموز التاريخية إلى جانب رموز من عالم كرة القدم، أو ورود أسماء لفنانين ومشاهير إعلاميين إلى جوار أسماء لمفكرين وعلماء مرجعيين في الدين أو السياسة أو غيرهما، أو أسماء ومصطلحات عالمية إلى جوار أسماء ومصطلحات مغرقة في المحلية، أو إقحام بنيات من خيال العلم في سياقات تاريخية أو حتى فانتازية مفارقة، لا يمكن أن يكون هو الطريق الصحيحة لقراءة العالم والتجارب الإنسانية؛ إننا نعيش في عالم يفتقر إلى النقاء، ويعاني من التناقض ومن تداخل المعارف والقيم حد ازدواجية المعايير، وتبدو حاجة الإنسان فيه ماسة إلى المساعدة في تلمس ذاته الهاربة، وتحسس مكانه الذي لم يعد يختلف عن أي مكان، وزمانه الذي أصبح مجرد رقم في شاشة مضيئة.
ربما كانت "مدينة الرياح" هي أول رواية قرأوها في حياتهم، وكارثة أن تكون آخر رواية قرأوها أيضا. كيف لمبدع أن يتعلم أصول الفن من عمل واحد؟ وكيف لكاتب ألا يكون قارئا أولا؟ ربما كان العنوان الصحيح لتلك الرواية التي استطاعت أن تغدو رواية لكل الموريتانيين هو "مدينة الريح"، ومن حق الكتاب اللاحقين أن يملأوا هذا الفراغ الدلالي ويصححوا الخلل رمزيا، لكن عليهم أن يميزوا بوضوح بين الكتابة العاصفة والكتابة في العاصفة.
لم يجادل أحد من النقاد عبر القرون في أن الإبداع يقوم في جوهره على قوة الجمع بين المتنافرات والمؤاخاة بين المتباعدات في وحدة واحدة متسقة ومتلاحمة في صيغة لفظها وبناء دلالتها. غير أن الكتابة بوصفها ممارسة فنية، وبوصفها تجربة خلاقة لإنتاج الأفكار وليست فقط مطية لها، فحقا عليها أن تمثل خطوة نحو اكتشاف الإنسان نفسه، وإعادة لترتيب الأشياء التي مزقتها من حوله عواصف الحياة.
د. المختار الجيلاني
أستاذ اللسانيات بجامعة انواكشوط