لم ينجح الرئيس الإسرائيلي رؤوفين رفلين كثيراً، في الخطاب الذي ألقاه قبل أيام، في التستر على قلقه من المتغيرات الديمغرافية الجارية في التركيبة السكانية. فما يقلق رفلين، كما الصهيونية كلها، ليس تزايد نسبة الفلسطينيين، بل التزايد السريع لنسبة المتدينين، ما سينعكس على طبيعة المجتمع العلماني، ويغير لاحقاً من طابع "إسرائيل".
.فقد أشارت تقديرات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، إلى أن نسبة المتدينين المتزمتين "الحريديم" من بين إجمالي طلبة الصف الأول ابتدائي، ستكون في العام 2018 حوالي 23%، مقابل نسبة 10% في العام 1990. فيما نسبة المتدينين من التيار الديني الصهيوني 16%، مقابل 17% في العام 1990؛ وهذا التيار أكثر ليبرالية دينياً، وأشد تطرفاً سياسياً. ونسبة العلمانيين اليهود من هذه الشريحة العُمرية هي 38% مقابل 52% في العام 1990. أما نسبة "فلسطينيي 48"، بعد إخراج فلسطينيي القدس، كما سوريي الجولان، فهي قرابة 22%، مقابل نحو 20% في العام 1990.
وترى الصهيونية وإسرائيل، أنهما "نجحتا" في لجم نسبة "فلسطينيي 48"، بعد استقدام نحو 1.3 مليون مهاجر يهودي خلال السنوات الـ25 الماضية. إضافة إلى أن وتيرة التكاثر السكاني بين الفلسطينيين تراجعت بفعل تطور المجتمع، رغم أنها ما تزال ضعف نسبة تزايد اليهود العلمانيين، ولكنها أقل من نسبة تكاثر "الحريديم"؛ 3.1% سنوياً.
لكن الصهيونية تقرأ هذه النسب المئوية بطريقة أخرى، وترى أن نحو 48% من الأطفال اليهود الإسرائيليين هم من المتدينين: 28% من الحريديم، و20% من التيار الديني الصهيوني. والنسبة الأولى تسبب قلقاً أشد من الثانية؛ فهذا ليس ناجماً عن جنوح اليهود إلى التدين، بل بسبب التكاثر السكاني المتسارع بين المتدينين.
وللقلق شقان؛ الأول اجتماعي، والثاني اقتصادي. فاجتماعياً، يعني ل"إسرائيل" أن المتدينين سيصبحون أغلبية ساحقة من بين اليهود خلال سنوات قليلة، وقد يفرضون قوانين وأنظمة إكراه ديني أشد مما هي اليوم، ما سيمنع أبناء الديانة اليهودية في العالم من الهجرة إلى "إسرائيل". وهذا واقع لن يشجع مثلاً، الفرنسيين اليهود، على الهجرة، كما تريد الصهيونية. وكذا بالنسبة للأميركيين اليهود وغيرهم من الأوروبيين.
أما اقتصادياً، فإن مجتمع "الحريديم" تقشفي منغلق على نفسه، لا ينخرط في سوق العمل بصورة طبيعية، ويعتاش بمعظمه على المخصصات الاجتماعية الحكومية والذاتية. وقسم كبير من "الحريديم" يدير اقتصاداً في دائرة مغلقة، بعيدة عن سلطات الضرائب. وفوق كل هذا، فهم يمتنعون عن الخدمة في جيش الاحتلال لأسباب دينية، رغم توجهاتهم السياسية اليمينية.
أمام واقع كهذا، فإن "إسرائيل" والصهيونية قلقتان من المستقبل. ويكثر الحديث عن شكل المجتمع الإسرائيلي ما بين 2025 و2030. ونذكر جيداً ما قاله بحث أجراه مختصون كبار في جامعة حيفا، قبل خمس سنوات، استنتج أنه في السنوات اللاحقة، ستتم محاصرة العلمانيين في ما سماها "دولة تل أبيب"؛ أي منطقة تل أبيب الكبرى. وأن حالة الانفجار السكاني التي ستكون هناك، ستشجع الأجيال الشابة اليهودية على الهجرة، خاصة وأن لنسبة كبيرة جداً منهم مواطنة (جنسية) ثانية.
في فحص أجريتُه في الأيام الأخيرة، أحصيت 43 مشروع قانون قدمها نواب لسكرتاريا الكنيست بعد الانتخابات الأخيرة، كلها تتعلق بعلاقة الدين بالدولة. وهو عدد سيزداد لاحقاً. منها قوانين بادر إليها نواب علمانيون، تطمح إلى كسر الوضع القائم، وقوانين أخرى قدمها نواب متزمتون، تريد تشديد القيود القائمة في معظم مجالات الحياة. وكل واحد من هذه القوانين، من شأنه أن يفجّر جلسة الهيئة العامة للكنيست لدى طرحه للتصويت. إذ علّمت التجربة أن الجدل حول هذه القوانين يكشف عمق "الأزمة الصامتة"، حتى الآن، في المجتمع الإسرائيلي.
بالإمكان الاستنتاج أن ساعة الرمل للأزمات الإسرائيلية الداخلية، اقتربت نسبياً من إفراغ ذرات الرمل الأخيرة. وما يساعد على عدم تفجّرها حالياً، هو "القلق الجماعي" من أوضاع المنطقة. وهو القلق الذي يسعى حكام "إسرائيل" إلى تأجيجه صباح مساء. إضافة إلى الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، الذي يشهد حالياً ما يشبه حالة خمول، لكن "إسرائيل" تعرف أن انفجاره مجدداً مسألة وقت.
صحيفة الغد الأردنية