عندما اشتد القصف النازي على لندن أيام الحرب العالمية الثانية، وكان الدمار عظيما، والضحايا بمئات الآلاف، شوهد اتشارشل رئيس الوزراء البريطاني، وهو يرفع عقيرته بأغنية حالمة كلماتها: " عندما تنظر بأم قلبك، وتستمع بوجدانك،
.وتخترق بصفاء ذهنك الأفق الملتهب، ستكتشف من بين أعمدة الدخان، وشلالات الدم الدافق عالما يجد فيه الإنسان نفسه، إنه عالم الإنصاف، والقدرة على إشراك الآخر في حلم الإنسان بأن يحيا، ويترك الآخرين يعيشون حلمهم بالحرية، .. ..." ثم أعاد النظر إلى سائقه الوفي وقال: "لو كنت من أصدقاء هتلر لطلبت منه أن نحترم معا قواعد اللعبة.."
أذكر أنني قرأت هذه الكلمات ضمن كتاب ضخم وجدته في أحد المراكز الثقافية بانواكشوط عن حياة اتشرشل.. لا أذكر إن كان الكتاب مذكرات الرجل مترجمة، أم هو عن سيرة حياته، لأن قراءتي له كانت في بداية الثمانينات من القرن العشرين.. المهم أنها تركت في نفسي انطباعا عميقا، بأهمية إنصاف الآخرين وضرورة تفهم الاختلاف في الرأي.
ذكرت هذا وأنا أتابع ببعض الأسى؛ وأنا خارج الوطن؛ الحراك الذي يجري في إطار تحضير مؤتمر اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، كنت أحلم بأن يتم أمر المؤتمر بسلاسة، كأن تتفق الأطراف على صيغة توافقية، وتأتي لمؤتمرها وقد أجمعت رأيها على موقف موحد.
وإذا تعذر الاتفاق وهو أمر وارد وطبيعي، أن تعد لمؤتمرها بالطرق القانونية باتباع المساطر المعروفة والموثقة، وتصدر لائحة مؤتمريها الذين ينقسمون إلى مجموعتين: مجموعة المنتسبين طيلة الفترات الماضية، وهم أشخاص اكتسبوا عضويتهم بالانتساب الطبيعي.
المجموعة الثانية: هي المجموعة التي طرحت طلبات للانتساب، قبل وبعد أن فتح المكتب التنفيذي باب الانتساب مؤخرا لكل من تتوفر فيه الشروط القانونية، وعين لجنة للنظر في هذه الطلبات ، ومعلوم أنه في هذه الحالة يفترض أن تنظر تلك اللجنة في أحقية كل شخص في الانتساب ، أو عدم أحقيته، وللتذكير فإن كل الأطراف الفاعلة في الاتحاد ممثلة في لجنة الانتساب بما يشبه التساوي.
وبما أن الأمور جرت على الطريقة التي جرت بها فلا بد من الإشارة؛ ولو عرضا؛ إلى بعض الملاحظات، والتذكير ببعض الحقائق. وقبل ذلك لابد أن أشرك قارئ هذه السطور في أمر هام يتوقف عليه كل ما سأدونه من ملاحظات وحقائق.
هذا الأمر هو أنني بطبيعة موقعي في المكتب التنفيذي أمينا للثقافة، وبحكم الثقة الكبيرة التي كان أعضاء المكتب التنفيذي دون استثناء يشرفوني بمنحها لي، كنت أحيط بكل التفاصيل المتعلقة بقرارات، وعمل المكتب التنفيذي، وأدعي هنا أنني تعاملت بإنصاف، في علاقتي بمختلف الحساسيات داخل الاتحاد وكنت حريصا على وحدته وتماسكه ، وفي أغلب الأحيان كنت وسيطا بين الشباب المتوثب للعراك والمبارزة، والسادة الحالمين بالهدوء والراحة . كما أنني عملت مع المجموعة التي كلفت بالتحضير للمؤتمر، وشغلت نائب رئيس هذه اللجنة التي يرأسها الأستاذ البارز الأخ الجيلاني، وعملنا صحبة كوكبة من الأساتذة المميزين وهم الأدباء:الشيخ بن أحمدو، والأخت حواء بنت ميلود، والأخ محمد نوح بن محمد فاضل...والأخ أعبيد بن سالم، والأخ محمد الأمين ولد المغيفري، والأخ أبوبكرن بن بلال، والأخت تربه بنت عمار، والأخ محمد الأمجد ولد محمد الأمين السالم. لقد عمل معظمنا بجد ومثابرة على تحضير وتحيين النصوص التي ستقدم للمؤتمر، ووضعنا خطة كاملة لأعمال المؤتمر، وكنا حريصين على أن نأخذ مسافة من الناحية العملية من كل الأطراف. هذا عهدي بنا..
ولأن المكتب التنفيذي دعي للاجتماع ليلغي الانتساب الذي تم بالطرق القانونية والطبيعية طيلة ثلاث سنوات،{ لم أكن لأصدق هذا الخبر قبل قراءته، والاطلاع عليه مكتوبا}، وألغى طلبات الانتساب دون النظر فيها، مع أنه فتح باب الانتساب بمداولة موثقة، ثم أعدت لائحة انتقائية على أساس بعض الولاءات ، وأقر مؤتمره على أساس هذه اللائحة التي حُينت آخر مرة أيام مؤتمر الاتحاد الأخير سنة2012م، وكان في خلد الطرف الذي قام بهذا الأمر، مستغلا نفوذه أن يبعد الكثير ممن يتطلعون إلى الانتساب، ليضمن لنفسه النجاح، فلجأ الطرف المتضرر إلى القضاء، فعلق أعمال المؤتمر..
هذه التطورات المحزنة والغريبة على الاتحاد ومن ينتسب للاتحاد اقتضت مني التنويه بالحقائق التالية:
أولا:لا أحد يتصور؛ من أي طرف كان؛ أنه يستطيع أن يلبس الحق بالباطل، فيقنع الآخرين بذلك، أو أن أيا كان سيقبل بأن يغمط حقه، بأي دوافع، وهو يعلم أن هناك دولة تحترم القانون دون أن يلجأ إليها ليرفع عنه الظلم، أو يعاد إلى صوابه.
ثانيا: لا يشك أحد يعرف المستوى الأخلاقي والاجتماعي والأدبي والثقافي الرفيع للأطراف المتناطحة في اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين في أن هذه الأطراف قادرة على تحييد لغة الطرشان، والاستماع لبعضها، والتفاهم حول قواعد اللعبة، على طريقة اتشرشل، واللجوء إلى القانون، ومن الخطإ أن يتوهم أحد الأطراف أنه يستطيع أن يخدع الطرف الآخر، أو أن يستغل ما لديه من إمكانات وصلاحيات ليقصي مخاصمه.
ثالثا: إذا كنتُ، أو كنتَ تحمل بطاقة انتساب اكتسبت بالطرق القانونية المألوفة، ودفعت رسومها، فلا يمكن لمسؤول في الاتحاد وإن علا أن يمنعني أو يمنعك من المشاركة في مؤتمر اتحاد الكتاب والأدباء، لأن العلة في المشاركة هو العضوية، والعضوية تكتسب بالبطاقة، وليس بلائحة يمكن لأي كان أن يجلس ويعدها على هواه. ويجب أن لا ننسى أنه يمكن لأي { وإن ارتفع شأنه} أن يقع في شرك الوهم بأن مخاتلة الآخرين ممكنة، وبأن التخافت بأن لا يدخل الاتحاد عليهم أحد؛ ستنطلي على من هو في الاتحاد بلحمه وشحمه وطبيعته وهواه، ومن باب الإنصاف أن نتذكر أن هذا الوهم قد يصيب أهل الفضل ،ولا يحط من قيمتهم ومكانتهم، لأنه أقرب إلى الطبيعة البشرية، ولا يمكن لأولي الفضل والسعة أن يتنصلوا من طبيعتهم البشرية.
رابعا: لقد عاب بعض القوم اللجوء إلى القضاء، و"استهجن" قرار تعليق المؤتمر من طرف هذه السلطة، ومن المفارقات التي تستدعي الإشفاق، أن هذا البعض كان ينوي إقصاء كاملا لكل هذا الزخم الهائل من المنتسبين،{مائة وأربعة وخمسين منتسبا كل منهم يملك بطاقة، يستطيع أن يرفعها في وجه من يطلبها، ومائتان وواحد وسبعين طالبا للانتساب، تم تبويب وتصنيف ملفاتهم، ودفعوا رسوم العضوية، ومازالوا يتمسكون بحقهم في هذه العضوية إلى أن تبت لجنة الانتساب في طلباتهم بالقبول أو الرفض. وهو ما لم يتم للأسف..}، ويعرف بعض هذا البعض أنه: "ما ضاع حق وراءه طالب.."
خامسا: هناك بدون شك بعض الشباب الناشطين؛ ومن طبيعة الشباب الحماسة والاندفاع؛ هؤلاء الشباب في لحظة من لحظات الحماسة، قالوا كلاما لم يتأكدوا من صحته، وطرحوا بعض النعوت غير دقيقة، فأساءوا من حيث توخوا الإحسان، وهذا النوع من الأخطاء قد يقع، فيغتفر لصاحبه، لأن مصادر الخبر متنوعة ومشوشة، ولأن القناعات والمصالح قد تلعب لعبتها فتلبس الصحيح بالسقيم، ولكن حين يتعلق الأمر بشباب كبار المعنى، مبدعين بارزين، فإن الأمر يصبح مؤسفا ومؤلما، ويصعب تصوره، خاصة أن فترة الانتخابات ستنقضي، ويستوي الذي يهز لمته انتشاء بفرح الانتصار، والذي يعض أصابعه حسرة على الخسارة، فتحتفظ الذاكرة الجمعية لمن توخى الحذر، ولم تدفعه مصالحه وحماسته وقناعته إلى مكابرة أو غمز أولمز، أو مشي بنميمة،أو منع لخير، فتجل فيه ما اتسم به، وتصنف من دفعته هذه المصالح والحماسة إلى صناعة كلام يفتقر إلى المادة الأولية، وإلى جودة المعدن، وإلى الصهر بالمواصفات الصحيحة، في ترتيب متأخر من لائحة المنسيات الجمعية.
سادسا: يجب أن تفهم الأطراف المتنازعة أن وحدة الاتحاد خط أحمر لا يجوز تجاوزه، لأن تجاوزه سيفقد الاتحاد مكانته فيصبح جمعية من جمعيات المجتمع المدني التي تملأ الدنيا عددا، ولا تملأ محارة معنى. إن أدباء هذا البلد سيطيحون بكل من يعميه الولع بالتصدر، ويسعى لتفجير الاتحاد على طريقة، " إذا لم أشرب
فليجف المنبع"..
سابعا: أطالب السادة أعضاء المكتب التنفيذي دون استثناء بأن يتحلوا بالمسؤولية ، وأن لا يفرطوا فيما عهد إليهم، وأن يلتزموا ما وسعهم ذلك بما تمليه عليهم أخلاقيات المسؤولية وأعرافها، وبما يحكمها من قوانين.
سأختم هذه الكلام دون أن أدعي لنفسي الإحاطة بما يمكن أن يقال في هذا الموضوع، إلا أنني أذكر الجميع بأن اللجوء إلى القضاء مسألة عادية بل هي من سمات المجتمع المتمدن، لأن القضاء هو الفيصل في كل القضايا الخلافية، ومعروف أن الإخوة الأشقاء قد يتنازعون على شاة فيلجأ أحدهم إلى القضاء، ويمكن بعد أن حكم القاضي أن يعودوا إلى لحمتهم العائلية ، وكل منهم يردد المثل السائر" إلً كَالْ الْقَاض مَاض"...
محمد الأمين ولد أحظانا