بداية لا بد من الإقرار بأن الإبداع الإنساني في شتى جوانبه المتعددة، من كتابة ورسم وفنون مختلفة،
.
وفي البلدان التي تقدمت فعلا، لم يعد مجرد هواية بلا قوانين، أو مجرد رغبات تتم ممارستها بشكل جيد أو سيئ وينتهي الأمر، لكنه أصبح سلعة مثلها مثل جميع السلع التي تخضع للعرض والطلب، لها من يقتنيها برغبة تامة، ومن يقتنيها برغبة مترددة، ومن لا يتوقف حتى ليطالع الواجهات التي تحملها.
المعارض الفنية لا تعرض لوحات ينبهر بها الزائر لدقائق ويمضي ناسيا ماذا رأى، وماذا سمع من الفنان الذي أبدعها، لكن يوجد بجانب كل لوحة معروضة سعر قد يكون خرافيا وضعه الرسام، وغالبا ما يجد من يشتري به.
الشاعر الغنائي لا يكتب أغنية حزينة أو راقصة لوجه الله، وشاعر القصيدة الفصحى لا ينشرها في دوريات ثقافية لمجرد أن يجد اسمه منحوتا في هذه الصحيفة أو تلك كما كان يحدث في الماضي، وحتى كتاب الروايات والقصص الذي ينشرون على حسابهم الشخصي، في البدايات، تداعبهم قطعا أحلام أن يحصدوا ما دفعوه، وأضعافا غيره في المستقبل.
سلعة معرفية
هناك صحف ومجلات تستكتب المبدعين في صفحات الآراء والصفحات الثقافية، ولا تغض الطرف عن أنها تستكتب أسماء لا تمنح الكتابة بلا عائد، وهناك شركات للدراما، تحول الروايات إلى قصص مرئية ومسموعة، وأيضا لا تنسى أنها تختار سلعة رأتها تصلح لذلك، وهكذا.
"في ما يخص الكتابة، نحن إزاء سلعة، ومهما كانت بائرة بسبب الظروف المحيطة بعالمنا العربي، تظل سلعة موجودة، مثلها مثل السلع الكمالية الأخرى، التي يقبل عليها البعض ولا يقبل عليها البعض الآخر"
إذن في ما يخص الكتابة، نحن إزاء سلعة، أقول بكل صراحة، ومهما كانت بائرة بسبب الظروف المحيطة بعالمنا العربي، تظل سلعة موجودة، مثلها مثل السلع الكمالية الأخرى، التي يقبل عليها البعض ولا يقبل عليها البعض الآخر.
ولأن السلعة تحتاج لتسويق من أجل أن يلم بها الناس، فلا بد للكاتب أن يسوق سلعته، إنه منتج في النهاية، تماما كالذي ينتج السيارات والأجهزة الكهربائية، وأدوات الحياة اليومية التي بعضها ضروري بكل تأكيد، وبعضها يتم اقتناؤه أو عدم اقتنائه، حسب الظروف. يمكن لمنتج الأدوات والسيارات أن يمول تسويق منتجه ليصل إلى كل الناس، بشتى الطرق، ولكن كيف يسوّق الكاتب سلعته التي هي كتاب أدبي أو علمي أو في أي نوع من أنواع المعرفة الأخرى.
قديما لم تكن هناك شبكة اسمها الشبكة العنكبوتية الموجودة الآن بكل بهائها وعيوبها، لم يكن أصلا ثمة مصطلح تجاري ملتصق بالإبداع، فالكاتب يكتب، والمطابع القديمة تطبع ما يكتبه، وترصه في المكتبات التي كانت مجرد أكشاك بلا ديكور ولا زركشة، ولا مفاتن تغري بالاقتراب منها، لكن كان كل شيء يقرأ، لسبب بسيط هو أنه لم تكن ثمة منافسة أخرى من أدوات ترفيه أخرى، وهكذا ساد الإبداع زمنا طويلا بلا سند كبير، وجاء الوقت لمساندته بتسويقه في زمن المنافسة.
الكاتب لديه بالضرورة صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة، خاصة فيسبوك وتويتر، هناك من صادقه على تلك الصفحات، أو تابعه من بعيد، وفي كل الأحوال، يستطيع الكاتب وبهذه الإمكانية الفقيرة، المجانية، أن يوصل لقارئه كثيرا من الأفكار، والأخبار الخاصة به وبمنتجه، وأيضا بنشاطاته المختلفة من محاضرات هنا، ولقاءات هناك، وتوقيع لكتاب في مكان ما، وهكذا هي فرصة جيدة للتواصل القوي بين الكاتب وقرائه، أو الكاتب وزملائه، وفي نفس الوقت، رفوف جيدة لعرض الكتب وعرض ما قيل عنها، من أجل تسويقها.
كبار الكتّاب
هذا نشاط مشروع ولا غبار عليه أبدا، وليس خاصا بصغار الكتاب من الذين لم يعرفهم الناس بعد، كما قد يعتقد البعض، ويلومون الكاتب المعروف إن مارس هكذا نشاط.
ولو تم تقصي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لعثرنا كمثال على صفحة للياباني هاروكي موراكامي، الذي يعتبر من ألمع كتاب الرواية في العالم، تعرض لحظات انطلاق منتجه الجديد، وصورا للقراء الذين اصطفوا من أجل الحصول على الكتاب، وتوقيع الكاتب، وأيضا لحظات استقبال الغرب لمنتج له تمت ترجمته للغة غربية حديثا.
" صفحة الكاتب الياباني الشهير هاروكي موراكامي في فيسبوك، والذي يعتبر من ألمع كتاب الرواية في العالم، تعرض لحظات انطلاق منتجه الجديد وصورا للقراء الذين اصطفوا من أجل الحصول على الكتاب وتوقيع الكاتب"
ولعثرنا أيضا على صور متعددة للكاتب العظيم أمين معلوف وهو يمشي في الطرق أو يحاضر في الجامعات أو يوقع في معارض كتابية، ويذكر أن كتابه الجديد متوفر في هذا المعرض أو تلك المكتبة.
ولطالما كنت صديقا لصفحة الكاتب النيجيري وولي سوينكا، وعبر تلك الصفحة، تعرفت إليه عن قرب، وعرفت الكثير عن طفولته وشبابه وكتبه التي لم أكن أعرفها، واقتنيتها بعد ذلك.
الأمثلة كثيرة ومتكررة، ويوجد في تويتر آلاف الكتاب الذين يعرضون سيرهم الذاتية ومؤلفاتهم، وإمكانية الحصول عليها، وآراء القراء العاديين فيها، وحتى النجم البرازيلي باولو كويلو يضع سيرته ومؤلفاته، وهكذا.
عندنا عربيا، من الواضح أن صفحات التواصل الاجتماعي ليست للإبداع ولا محاولة التسويق الفقير له، فالكاتب مكبل بمائة قيد محزن يمنعه من وضع صورة له يوقع فيها كتابا، ويمنعه من الابتسامة في وجه فتاة أحبت كتابته، وابتسمت له، كما يمنعه من مجرد وضع صورة غلاف لكتاب جديد أصدره ومشاركة الناس نشوته، لأن هناك من يراقب صورة الكتاب ويتخيلها حشرة ضارة، وهكذا.
نحن فيما يخص الكتابة، وإن انتقلنا نظريا إلى عصر التكنولوجيا، لكننا ما نزال في عصر المطابع التي ترص الحروف بلا وعي، والعمال الذين يخاطبون الكاتب بلقب "الأسطى" أو "المعلم"، ولم أستغرب أو أبتئس حين خبطني أحدهم على كتفي في معرض للكتب كنت أوقع فيه كتابا، وهو يسألني بجدية كبيرة ممسكا بروايتي "عن ماذا تتحدث قصيدتك هذه يا حاج"!
أمير تاج السر كاتب روائي سوداني
المصدر : الجزيرة