أظهرنا في مقالٍ مضى الدافع الشخصي للرئيس بوش “الإبن” من حيث نيته غزو العراق للإنتقام لمحاولة إغتيال والده في الكويت عام 1993, ونُضيف هاهُنا أنه كان بحاجة إلى مبرر كما كان الرئيس روزفلت بحاجة إلى مبرر لدخول الحرب العالمية الثانية
.
وجاءه المبرر بالهجوم الياباني على الأسطول الأمريكي بيرل هاربر الذي راح ضحيته أكثر من 2400 أمريكي فضلاً عن الجرحى، وأما هجمات 11 سبتمبر فهي تمنح بوش مبرراً لغزو أفغانستان حيث المتهم المُفترض بن لادن والقاعدة ولكنها لا تمنحه مبرراً لغزو العراق، فما كان من إدارة الصقور إلا أن ربطت بين جماعة أنصار الإسلام في العراق التابعة للقاعدة وبين نظام صدام، وبلغت من التلفيق حد الزعم أن محمد عطا قائد مجموعة الهجوم على إحدى برجي مركز التجارة العالمي إلتقى بضابط المخابرات العراقي أحمد خليل إبراهيم العاني في العاصمة التشيكية براغ وبحثا التخطيط لتفجير إذاعة أوروبا الحرة وإذاعة العراق الحر , وما الإدعاء في حقيقته إلا لإتهام صدام بالإرهاب توفيراً لذريعة أُخرى غير أسلحة الدمار الشامل لشن الحرب التي يسعى لها بوش كل السعي.
ولم يقتصر إختراق cia للدائرة المحيطة بصدام من خطوط الحماية الخاصة والمرافقين على خدمات العميل الذي هلك في الغارة الأمريكية الأولى في 20 مارس 2003 كما قدَّمنا من قبل، بل شملت عدداً ليس بقليل من ضباط المخابرات العامة والعسكرية الذين جنَّدتهم الوكالة عن طريق إتصالات زملاءهم الضباط الذين إنشقوا ولجأوا إلى الخارج وعرضوا خدماتهم للأمريكيين وباتوا مع عملاء الداخل نظام التوجيه لمنصة إنطلاق الصواريخ الأمريكية لإستهداف صدام شخصياً , ومع أننا لن نفصح عن منابع التلقي لهذه المعلومات إلا أنه لزاماً علينا توثيق الأمر لإثبات ظاهرة العمالة التي تفشَّت في أركان النظام السابق وعمل صناديدها مرشدين سياحيين لقوات الغزو, وهو أمرٌ ليس من إنتحالنا بل إعترف به صدام في تسجيله الصوتي الذي أذاعته القنوات الإخبارية في 30 إبريل 2003 وصرّح فيه قائلاً (لم ينتصروا عليكم يا من ترفضون الإحتلال والذل ويا من في قلوبكم وعقولكم العروبة والإسلام إلا بالخيانة) .
ولمنح القارىء شيئاً من ذلك أقوى دلالة وأنهضُ حُجَّة نذكر ما ورد في مذكرات صدام المنشورة في كتاب (هذا ما حدث) , ثم نكشف ما لم يتم تناوله أو أُغفل تداوله , يقول صدام (وفي أحد الأيام دعوت القيادة إلى إجتماع في مطعم الساعة بحي المنصور وطلبت من أعضاء القيادة الدخول من الباب الأمامي والخلفي للمطعم وبعد أن تمعَّنت في الحضور وجدت أن أحد الأشخاص المهمين كان غائباً عن الإجتماع فقلت في نفسي: لقد فعلها , وعلى الفور طلبت من الحضور الإنصراف والتوجّه إلى مكان آخر وبعد خروجنا مباشرةً ضرب الغزاة المكان ودمَّروه بالكامل , توجهنا إلى دار إعتيادية في حي المنصور , وبعد دخولنا ولقاءنا لفترة قصيرة أمرتهم بالخروج ثم ضُرب المكان بشدة بعد دقائق من خروجنا).
التعقيب: لربما سائلٌ يسأل: من هو الشخص المُهم الذي غاب عن إجتماع القيادة؟
كشفت بعض الصحف وقتذاك أنه النقيب عدنان يوسف حسن وكان يتولي حماية الأماكن الخاصة والبديلة للرئيس التي كان يتنقل بينها ويعقد فيها إجتماعاته ووشى بإجتماع القيادة في مطعم الساعة وتم كشفه وإعدامه بتهمة التخابر مع cia، ولكن هذا الكلام ينقصه الدقة، فالنقيب هو عدنان يوسف حسن التكريتي كان يقدم المعلومات للأمريكيين ومعه موظف يدعى (ع,ع) مسئول قصور صدام في الرضوانية وكُشف عدنان وأُعدم ولكنه ليس المعني الذي وصفه صدام بأنه أحد الأشخاص المُهمين الذي لا يمكن أن يكون ضابطاً صغيراً يعمل حارساً لمقرات إجتماع القيادة, فالنقيب كانت مهمته الحراسة وليس ركناً في إجتماع القيادة, إذاً ما هي القصة؟
بدأت القصة عندما طلب قائد قوات نبوخذ نصر للحرس الجمهوري اللواء سيف الدين الراوي مقابلة القيادات العُليا بعد خلاف مع قُصي حول خطة الدفاع عن بغداد، وكان اللقاء مقرراً في مطعم الساعة في حي المنصور ببغداد في 7 أبريل 2003 وحضر صدام مع قُصي بسيارة تاكسي كعادته للتمويه، وقُبيل بدء الإجتماع تنبَّه صدام إلى غياب الفريق ركن سفيان جغيف التكريتي قائد الفيلق الأول في الحرس الجمهوري ومسئول تأمين منطقة الحماية الخاصة بالرئيس والمُشرف على “فدائيي صدام” برئاسة عُدي، لم يكن الفريق سفيان حاضراً مع كونه يشغل مناصب عُليا فتوجَّسَ صدام خيفة بعد أن إرتابَ في أمرِ تغيّبه وأمَر الجميع بمغادرة المطعم على الفور، وما إن غادروه حتى قُصف المطعم ودُمِّر بعد دقائق، ثم توجَّهوا إلى بيت تابع للمخابرات خلف مطعم الساعة فتوجَّس صدام خيفة أيضاً وأمر بمغادرة المنزل، وما هي إلا دقائق إذا بالقصف يُدمر المنزل ويُسوّيه بالأرض
وكان صدام مذهولاً من تكرار إستهدافه لمرتين متتاليتين، وللتنبيه فإن سفيان جغيف التكريتي هو ليس سفيان ماهر التكريتي مساعد قُصي وقائد قوات عدنان في الحرس الجمهوري الذي أُتهم بالخيانة هو الآخر لدوره في سقوط بغداد.
نورد نموذجاً آخر من مذكرات صدام ( بعد إحتلال بغداد ذهبت إلى الأنبار حيث مضيف عائلة عراقية معروفة بكرمها ووفائها ووطنيتها، هي عائلة الخربيط , كنت في ديوان المضيف، وبينما كنت أُعد نفسي للنوم قليلاً إذ بالطائرات الأمريكية تضرب المكان فاستشهد روكان عبد الغفور رحمه الله كما أُستشهد بعض المرافقين وعدد كبير من عائلة صاحب الدار).
التعقيب: عائلة الخربيط لها فضل على النظام السابق فأحدهم ساهم في إستدراج رئيس الوزراء الأسبق عبد الرزاق النايف إلى مطعم في لندن قبيل إغتياله عام 1978 , وعبد الحميد الخربيط ساهم عام 1996 في إقناع حسين كامل بالعودة حيث لقي مصيره, ولما نزل صدام ببيت الخربيط في الرمادي وصلت المعلومة إلى الأمريكيين من المحيطين بصدام كالعادة فدكَّت الغارة المنزل وقُتل مرافقا صدام روكان رزوقي عبد الغفور المجيد وبرزان رزوقي عبد الغفور المجيد وهما من أبناء عمومته وقُتلت عائلتيهما و9 أشخاص من عائلة الخربيط ودُفنوا بمقبرة الرمادي.
وغنيٌ عن البيان أن الذي وشى بعُدي وقُصي هو صاحب المنزل الذي إستضافهما في الموصل نواف الزيدان الذي كان من المقربين لصدام وكان نواف قد خرج مع عائلته وأبلغ القوات الأمريكية بوجود عدي وقصي في منزله وحصل على المكافأة ورحَّله الأميركيون مع عائلته إلى الخارج , وقتل مسلحون شقيقه صلاح الزيدان في حي الحدباء بالموصل في 5 يونيو 2004
ولمّا وقع العقيد محمد المسلط في قبضة القوات الأمريكية طلب أن يكون “شاهد مَلَك” ويدلّهم على المزرعة التي يتوارى فيها صدام ويقبض المكافأة , وبعد أن أرشدهم أخبروه أنه لا يستحق المكافأة , وإغتال مسلحون بتكريت شقيقه خليل المسلط وزوجته وأولاده الأربعة في 19 ديسمبر 2003 , والعقيد هو إبن خال صدام وإبن عم زوجته ساجدة خير الله طلفاح المسلط .
ويكشف صدام في مذكراته ( قبل القبض علي تكونت لدي ملاحظات على صديقي صاحب الدار , فقبل أسبوع من الإعتقال بدا لي شارد الذهن وقد بدأ وجهه يتغير وتصرفه غير طبيعي , ومن شدة ثقتي به لم يساورني أدنى شك في إحتمال أن يغدر بي , ومع الأسف فإنه ركب الهوى وتبع الشيطان وربما هي الغنيمة التي وعده بها الأميركان …. لذا عليكم أن تخبروا العراقيين أن قيس النامق وإخوانه هم الذين وشوا بي).
وروى طه الجزراوي حواراً دار بينه وبين صدام في إستراحة إحدى جلسات المحكمة في قضية الدجيل وصرح خلاله صدام قائلاً (والله لم أمشِ يوماً وراء عواطفي إلا تلك المرة ودفعت جراء ذلك أغلى ثمن في تاريخي , جئت من “حمرين” وكان الشخص الذي يقود السيارة التي تقلني هو قيس النامق وكنت متعباً حينهاً وعندما وصلنا إلى منزل قيس سألته : هل هناك إحراج أن أنام عندك الليلة ؟ فقال لي: سيدي أنت ضيفنا العزيز, ولم أشك مطلقاً بكلامه وفوجئت بأن الأميركيين يقفون على رأسي بعد أن وشى بي قيس).
التعقيب : المذكور قيس نامق الدوري مرافق لصدام ومن أعضاء حمايته الخاصة، أُعفي وأُحيل على التقاعد إثر تعرضه لتصلب في الشرايين وهو زوج شقيقة عادل مهدي الدوري عضو قيادة قطرية ومسئول البعث في السماوة ومحافظ ذي قار، أُعتقل في مايو 2003 ومات في المعتقل وقال صدام لطه الجزراوي بعد وفاة الدوري (خلص من الفضيحة والعار) لأن قيس زوج شقيقته وكان العار سيلحق به لو كان حياً لأنه هو الذي قدَّم قيس إلى صدام وضمن إخلاصه.
القدس