كتب الدكتور أحمد ولد هارون ولد أحمد ولد الشيخ سيديا..
تشغل المرءَ أحيانا حوادثُ محزنة وأخرى سارة ومشاغل يومية فتحرمه مشاركة أصدقائه ومتابعيه الاحتفاء بمناسبات عظيمة كتخليد اليوم العالمي للغة العربية، الثامن عشر من شهر دجنبر، لكن لا بأس فالأيام جميعها أعياد للعربية، ويقال إن شهر دجنبر كله شهرها وشهر عالميتها.
ففي الرابع من دجنبر سنة 1954 صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 878 الذي يجيز الترجمة التحريرية إلى اللغة العربية شرط ألا يتجاوز عدد الصفحات أربعة آلاف في السنة وأن تدفع الدولة التي طلبتها التكاليف.
وفي دورة المجلس التنفيذي لليونسكو رقم 190 المنعقدة سنة 2012 تقرر جعل الثامن عشر من دجنبر يوما عالميا للغة العربية، وكان ذلك تخليدا للقرار رقم 3190 الصادر في مثل ذلك اليوم من عام 1973 والذي بموجبه قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إدراج العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في المنظمة.
يوم محبب إلى القلوب وفرصة للناطقين بهذه اللغة العجيبة ولمحبيها كي يفكروا في وضعها ومستقبلها وماضيها والزوايا التي يمكن من خلالها النظر إلى الموضوع كثيرة متنوعة.
إن العربية لغة كل شيء وهي لغة الأدب على وجه الخصوص. والآداب الإنسانية هي أجمل الثقافات والمعارف وأنضجها وأعمقها وجمال العربية وتأثيرها في نفوس الموريتانيين لا حد له، يزيد من ذلك مواهبُ من يؤديها ومستوى من يتلقاها والظروف المحيطة.
قليل من الموريتانيين من برع في كتابة النثر العربي، وبرع منهم أكثر من ذلك في الخَطابة بالفصحى، وأكثرهم في المجال الدعوي. وقد كان الدكتور جمال ابن الحسن يقول إن من بين خطباء ومحاضري عصره المعروفين على المنابر والمدرجات ثلاثة لا يلحنون: المرابط محمد سالم ولد عدود، والشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدي، وأنا، يعني نفسه!
وفيما يخص الخطب الرسمية، أذكر أني سمعت للسياسي والدبلوماسي محمد فاضل ولد الداه خطابين مكتوبين لم أسمع قبلهما ولا بعدهما خطابا موريتانيا رسميا يماثلهما، تحريرا وإلقاء.
هذا عن الخَطابة بالفصحى والخطابة الدعوية التي برع فيها دعاة موريتانيون كثر، من بينهم شباب متميزون. أما الشعر العربي الفصيح، فلا يخفى أن الموريتانيين برعوا فيه إلى حد بعيد، إنشاءً وإنشادا ودراية ورواية. وقد شهدتُ في ليلة من ليالي فبراير الماضي، وفي هواء طلق وجو معتدل، خارج نواكشوط طبعا، سمَرا أدبيا رائقا تلاقى فيه، على غير موعد، أدباء وعلماء ومثقفون، كان من بينهم الشاعر الراوي محمد الحافظ بن أحمدُ، والأستاذ الأديب عبد الله بن سيدي عبد الله.
فعند منتصف الليل، وبعد قراءات شعرية، محلية وعربية، وتعليقات نقدية وقصص تراثية وفوائد أخرى كثيرة ومتميزة، طلب محمد الحافظ من عبد الله أن يسمعه يائية المتنبي:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى الْمَوْتَ شَافِيَا / وَحَسْبُ الْمَنَايَا أَنْ يَكُنَّ أَمَانِيَا
فبدأ عبد الله ينشد القصيدة نِشْدانا منتظما اجتمع فيه الطابعان العصري والتراثي، وبصوت هادئ عميق، تكاد القلوب إذا سمعته أن تخرج من أضلاعها استطابة له، على حد عبارة ابن المنَجِّم!
وبعد أن طَرِب الجميع، رأيت محمدا الحافظ يتحرك حثيثا تحت جنح الظلام ويقترب من مُنشِده ليسمع منه القريض عن قرب. حتى إذا بلغ عبدُ الله قول أبي الطيب:
إِذَا كُنْتَ تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ بذِلَّةٍ / فَلَا تَسْتَعِدَّنَّ الْحُسَامَ الْيَمَانِيَا
وَلَا تَسْتَطِيلَنَّ الرِّمَاحَ لِغَارَةٍ / وَلَا تَسْتَجِيدَنَّ الْعِتَاقَ الْمَذَاكِيَا
فَمَا يَنْفَعُ الْأُسْدَ الْحَيَاءُ مِنَ الطَّوَى / وَلَا تُتَّقَى حَتَّى تَكُونَ ضَوَارِيَا
صاح محمد الحافظ الصيحة الأولى طربا، وأعاد البيت الأخير:
فَمَا يَنْفَعُ الْأُسْدَ الْحَيَاءُ مِنَ الطَّوَى / وَلَا تُتَّقَى حَتَّى تَكُونَ ضَوَارِيَا.
عندها، فتح عبد الله قوسا شرح فيها البيت المذكور بكلمات قليلة من الحسانية الصقيلة، فقال: "اسْبُوعَه ما ينْشَكْرُو ابْزَيْنْ اطْبٍيعَه!"، فضحك محمد الحافظ وسلَّم الشرح تسليما وقال: كثَّر الله من أمثالك يا عبد الله.
وفي هذا البيت رسم المتنبي إحدى الحِكَم القيادية الخالدة. وقد ذكَّرتنا معانيها بمعاني وقصص مشهورة في مجال الحكم والسياسة، في مجتمعنا وفي غيره. من ذلك قصة امبراطور أوربا، نابليون بونابرت، مع أخيه لويس. فقد أجلسه على عرش البلاد الواطئة؛ وبعد مدة أراد الامبراطور نابليون أن يعرف كيف ينظر الهولنديون إلى مَلِكهم لويس، فانتهز فرصة استقبال وفد منهم ليسألهم: ماذا يقول الناس في أخي المَلِك؟ قالوا: إنه رجل طيب. فقال نابليون: ذلك رجل انتهى أمره! فعندما يحكم شعب ما على حاكمه بالطيبة المجردة، فتلك نهايته!
ويروى عن أمير المومنين عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء الراشدين، وعظماء الحكام كثير من معاني الشدة في الحق والقوة والحزم، المستمدة من العدل والإنجاز المقنِع، لا بالعنف والخشونة في غير محلهما ولا بالتصنع، وأن تأتي قرارات القائد واضحة وفي وقتها. لا مترددة وفي الوقت الضائع، حين ينفد رصيد الحاكم أو يتضاءل، ليصير كل تصرف له نقمة، وعدم التصرف نقمتين!
وفي ثراثنا الشعبي عظيمة تسمى "فاطمَه النَّيْفْرُوهَ"، وهي نملة تنبت لها، كلما نزل المطر، أجنحة، فتظن المسكينة أنها صارت طيرا من الطيور لا نملة ضعيفة، وتقلع على ذلك الأساس دون مقدمات أو طاقة للإقلاع، ثم تسقط وتموت عند اصطدامها بأول جسم، حتى ولو كان الهواء!
استأنف عبد الله اليائية إلى أن بلغ منها قول المتنبي:
وَلَكِنَّ بِالْفُسْطَاطِ بَحْرًا أَزَرْتُهُ / حَيَاتِي وَنُصْحِي وَالْهَوَى وَالْقَوَافِيَا
وَجُرداً مَدَدنا بَينَ آذانِها القَنا / فَبِتنَ خِفافا يَتَّبِعنَ العَوالِيا
تَماشَى بِأَيدٍ كُلَّما وافَتِ الصَفا / نَقَشْنَ بِهِ صَدْرَ البُزاةِ حَوافِيا
وَتَنظُرُ مِن سُودٍ صَوادِقَ في الدُجى / يَرَينَ بَعيداتِ الشُخوصِ كَما هِيَا
وَتَنصِبُ لِلجَرْسِ الخَفيِّ سَوامِعاً / يَخَلنَ مُناجاةَ الضَميرِ تَنادِيا
تُجاذِبُ فُرسانَ الصَباحِ أَعِنَّةً / كَأَنَّ عَلى الأَعناقِ مِنها أَفاعِيا
هنا صعق محمد الحافظ وتكلم عن المتنبي كلاما بالغا مختصرا، ثم سكت وهدأ هدوءا لافتا؛ فأردت أن أقطع صمته وأستثير أدبه فقلت له: هل أعطيك سجادة تسجد عليها؟ إشارة إلى سجدات الشعر المشهورة. فقال: لا يا ولدي؛ فإن الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"، وأنا سكران. أسكرني المتنبي!
انتهى المجلس في وقت متأخر من الليل. وبعد ذلك بأيام قليلة، عاد جل أولئك السُّمار إلى نواكشوط. ادَّاركوا في السبخة الوبيئة ليحاصرهم وباء كوفيد، بأدبياته وثقافته ووَساوِسه وإحصاءاته وفقهه… وخضع الجميع لإكراهاته، ومنعَهم فتح المدارس في شهر شتنبر من مغادرة العاصمة في الخريف. واشتد على سُمَّارَ فبراير ضغط الصيف والخريف معا ونَكَدُهما، مستنشقين الرطوبة في موسمهما ومتعرضين للملوحة في عاصمتهما، مع ما شاء الله من مَشاهد الأوساخ والفوضى، والعمارات غير المكتملة المنتشرة على طول كل شارع، وما شاء الله من لكنة الشباب والمراهقين، ورطانة الشٌِيب الممسوخين.
لم يعد خافيا أن مشكلنا، نحن الموريتانيين، مع اللغة العربية مشكل نفساني؛ وذلك بعد أن تم تعريب أجيال منا وترسيم العربية واقتناع العالم بأن العربية لغة حيوية غنية لا يعجزها مجال تقني أو علمي أو إعلامي، فضلا عن حقول الأدب والعلوم الإنسانية.
ربما لا يعلم الكثير أن العربية هي اللغة الوحيدة المصنفة اليوم - أكاديميا - بأنها لغة كلاسيكية وحديثة في آن واحد.
وربما لا يعلم الكثير أيضا أن اللغة الأجنبية لم تعد تُقدِّم في عالم اليوم أو تؤخر أو تعيق، بما في ذلك الإنجليزية نفسها. صحيح أنها تفيد كثيرا في البحث والتواصل حد الضرورة؛ ولا غنى لأجيال العصر عنها. إلا أن سنة واحدة أو ستة أشهر كفيلة بتعليم الإنجليزية - مثلا - للمتعلم المدرك المحتاج إليها احتياجا علميا أو عمليا. فما على المرء اليوم، عربيا كان أو صينيا أو تركيا أو روسيا أو سويديا أو رومانيا أو جورجيا، إلا أن يحسن تعلم لغته الأم. ودولُته، مهما كان ضعفها وانحطاطها، ستوظفه بلغتها، ومجتمعُه يتواصل معه بها. وكل مدارس الدنيا وجامعاتها ومعاهدها تدرس اللغات الأجنبية على قدر حاجة طالب العلم والمتخصص.
شكا أحد الطلاب الشباب عدم إلمامه باللغة الأجنبية لأحد كبار المثقفين المتعلمين - أصلا - باللغة الفرنسية. فقال له أحسِن تعلم علم ما أو مهنة أو حرفة، مع لغتك الأم طبعا. ولن يعجزك بعد ذلك إيصال علمك أو كفاءتك بأي لغة.
وسألت يوما أحد المثقفين الكبار المطلعين. وكان تعليمه الابتدائي والأكاديمي باللغة الفرنسية: ما أجمل خطاب سمعتَه في حياتك؟ وكنت أتوقع أن يذكر لي إحدى خطب الجنرال ديغول، أو أندري مالرو، أو آلان بيرفيت، أوغيرهم من الناطقين بالفرنسية الذين عايشهم عن قرب وتابعهم عن كثب. لكنه فاجأني بقوله إن أجمل خطاب سمعه وأكثره حكمة وتنظيما ووضوحا للأفكار، هو خطاب ألقاه في سنوات الثمانين نائب وزير الخارجية الصيني أمام موظفي وزارة الخارجية الموريتانية. وكان الخطاب، بطبيعة الحال، باللغة الصينية التي لا يفهمها محدثي أو أي من الحضور. وقد تولت الترجمة إلى الفرنسية فتاة صينية تتحدث لغة فرنسية رديئة. غير أن تمكُّن المحاضر من موضوعه ووضوح أفكاره كانا كفيلين بإيصالها للمتلقي كاملة ساخنة.
عند أول فرصة للخروج سمح لنا بها وزيرا داخليتنا وصحتنا، سارعنا جميعا إلى البادية والنقاهة السمعية، قبل البصرية والبدنية. وكنتُ ممن توجه باكرا إلى مسقط رأسه في أطراف إحدى المدن الداخلية. وفي الأيام الأولى من تلك العطلة القصيرة، قصدت الأستاذ عبد الله في بيته العامر بضاحية أبي تلميت، لعله يعود بنا إلى جو ليلة فبراير تلك وسمرها الراقي. فوجدته، كما توقعت، أشدنا تأثرا بقضاء أشهر الصيف والخريف في العاصمة تحت إكراه الحجر الصحي وفتح المدارس في شتنبر. لذلك كان من أول المغادرين للعاصمة بداية العطلة، وضرب لنفسه خيمة كبيرة قرب منزله، لا يغادرها إلا قليلا.
بعد السلام وتبادل الأخبار والعشاء، استنشدته شيئا من شعر العرب يعين على القصد. فأسمعني أول ما أسمعني، وبصوت أهدأ وأعمق من ذي قبل، لامية الأخطل:
كَذَبَتكَ عَينُكَ أَم رَأَيتَ بِواسِطٍ / غَلَسَ الظَلامِ مِنَ الرَبابِ خَيالا
وَتَعَرَّضَتْ لَكَ بِالأَبالِخِ بَعدَ ما / قَطَعَتْ بِأَبرَقَ خُلَّةً وَوِصالا
وَتَغَوَّلَت لِتَرُوعَنا جِنِّيَّةٌ / وَالغانِياتُ يُرينَكَ الأَهوالا
يَمدُدنَ مِن هَفَواتِهِنَّ إِلى الصِبا / سَبَباً يَصِدنَ بِهِ الغُواةَ طُوالا
ما إِن رَأَيتُ كَمَكرِهِنَّ إِذا جَرى / فينا وَلا كَحِبالِهِنَّ حِبالا
المُهدِياتُ لِمَن هَوَينَ مَسَبَّةً / وَالمُحسِناتُ لِمَن قَلَينَ مَقالا
يَرعَينَ عَهدَكَ ما رَأَينَكَ شاهِداً / وَإِذا مَذِلتَ يَصِرنَ عَنكَ مِذالا
وَإِذا وَعَدنَكَ نائِلاً أَخلَفنَهُ / وَوَجَدتَ عِندَ عِداتِهِنَّ مِطالا
وَإِذا دَعَونَكَ عَمَّهُنَّ فَإِنَّهُ / نَسَبٌ يَزيدُكَ عِندَهُنَّ خَبالا
وَإِذا وَزَنتَ حُلومَهُنَّ إِلى الصِبا / رَجَحَ الصِبا بِحُلومِهِنَّ فَمالا
أَهِيَ الصَريمَةُ مِنكِ أُمَّ مُحَلِّمٍ / أَمْ ذا الدَلالُ فَطالَ ذاكِ دَلالا
وَلَقَد عَلِمتِ إِذا العِشارُ تَرَوَّحَت / هَدَجَ الرِئالِ تَكُبُّهُنَّ شَمَالا
تَرمي العِضاهَ بِحاصِبٍ مِن ثَلجِها / حَتّى يَبيتَ عَلى العِضاهِ جفالا
أَنّا نُعَجِّلُ بِالعَبيطِ لِضَيفِنا / قَبلَ العِيالِ وَنَقتُلُ الأَبطالا
أَبَنِي كُلَيبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَذا / قَتَلا المُلوكَ وَفَكَّكا الأَغلالا
وَأَخوهُما السَفّاحُ ظَمَّأَ خَيلَهُ / حَتّى وَرَدنَ جِبى الكلابِ نِهالا ... القصيدةَ
ولما بلغ قوله:
أَهِيَ الصَريمَةُ مِنكِ أُمَّ مُحَلِّمٍ / أَمْ ذا الدَلالُ فَطالَ ذاكِ دَلالا
قال إن شيخه الذي كان يدرسه النقائض، وهو عالم جليل ماهر، كان يعلق على هذا البيت بأن هذا الصنف من الأسئلة والإشكالات لا يحصل صاحبه - في الغالب - على الرد الشافي، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
هنا نقبنا، نحن الاثنين، عن تساؤلاتنا الخاصة بنا والإشكالات المجتمعية والوطنية التي لم نجد لها في ما مضى حلا، ولا نراه لها في المستقبل المنظور؛ فإذا بها غير قليلة، قد تتسنى فرصة أخرى لمشاركة القارئ إياها.
انتهى السمر في وقت متأخر من الليل، فودعت الأستاذ وتوجهت إلى مسقط الرأس، متزودا بليلة أخرى من كلام العرب الجميل.