قراءة في مذكرات الخليل ولد الطيب: سيرة ذاتية بوصفها شهادة على تاريخ موريتانيا السياسي
تمثل مذكرات النائب السابق والقيادي الناصري الخليل ولد الطيب مساهمة توثيقية هامة في كتابة التاريخ السياسي الحديث لموريتانيا، حيث تلتقي فيها السيرة الذاتية مع الذاكرة الجماعية، وتبنى من خلالها سردية سياسية وفكرية تتجاوز البعد الشخصي إلى الأفق القومي.
ينطلق الكاتب من منظور ذاتي يعيد من خلاله رسم معالم نشأته القروية والدينية في محيط قيمي صلب، ثم يتنقل بالقارئ إلى مسارات التكوين السياسي والفكري في ظل الحركات القومية، لا سيما الناصرية، التي شكلت المرجعية الفكرية الأساسية لمسيرته. ويتوزع المتن السردي بين الطفولة، الاعتقال، العمل السري، التجربة البرلمانية، والعلاقة مع الأنظمة المختلفة.
تقدم الناصرية في هذه المذكرات ليس فقط كخيار سياسي، بل كمنظور أخلاقي ونهضوي في مواجهة المشاريع المضادة، خاصة التيار الإسلامي السياسي والبعثي. ويجسد الخليل هذه الهوية من خلال تشبثه بالمواقف المبدئية، ورفضه الاندماج غير المشروط في الأنظمة، مع محاولات مستمرة للتوفيق بين الموقف الأخلاقي والواقعي.
تبرز خلفية كتابة المذكرات كاستجابة لمحاولة تهميش الحركة الناصرية وتزوير دورها النضالي، حيث يسعى الكاتب إلى استعادة صوت المناضلين(المجهولين)وتثبيت سردية المقاومة والمعاناة ضمن تاريخ لم يُكتب بعد بشكل موضوعي. وهو بذلك يعلن انحيازه لوظيفة المقاومة الذاكراتية ضد التصفية الرمزية للنضال القومي.
تتميز المذكرات بقدر معتبر من الشفافية والنقد الذاتي؛ إذ لا يتردد الخليل في الاعتراف بالأخطاء، أو توجيه النقد لرفاقه أو نفسه، كما يتسم بالحكمة في تقييم علاقاته السياسية، فيمتدح خصومه حين يقتضي الإنصاف، ويتجنب خطاب التشفي أو الإقصاء.
رغم الطابع الشخصي، فإن العمل يتجاوز السيرة إلى الشهادة السياسية، من خلال رصده لأحداث مفصلية مثل الانقلابات، الاعتقالات، التحالفات الحزبية، والعلاقة مع رموز مثل ولد الطايع، مسعود، بيرام، الشافعي، وسيدي محمد ولد الشيخ عبد الله. ويُبرز من خلال ذلك مساحات التوتر بين القيم والمصالح، وبين المبادئ ومتطلبات السياسة اليومية.
لا تقتصر المذكرات على الجانب السياسي فقط، بل تتخللها لحظات إنسانية عميقة، خاصة في الحديث عن وفاة شقيقه أحمدو، والتجربة الاستشفائية، والمواقف التي تكشف عن روح تصالحية، متدينة، تنشد العفو والتسامح، بما يجعل السردية ذات بعد روحي وفلسفي أيضا.
تعد هذه المذكرات مساهمة بالغة الأهمية في أرشفة مرحلة حاسمة من تاريخ موريتانيا، وتمثل مصدرا فريدا للباحثين في السياسة والفكر القومي العربي. إن قدرة الكاتب على الجمع بين الأمانة في التوثيق، والنقد الذاتي، والانتماء الفكري، تجعل من هذه المذكرات نصا مركبا يندرج ضمن (السير الكبرى)التي تسائل الذات والمرحلة، وتسهم في بناء وعي وطني وقومي مستنير.
قاسم صالح