كان من المفترض ان تشهد المدن الليبية، والعاصمة طرابلس وساحتها الرئيسية (الحرية) الخضراء سابقا، مهرجانات فرح عفوية الخميس والجمعة احتفالا بمقتل العقيد معمر القذافي، وانهيار نظام حكمه على يد طائرات حلف الناتو والثوار الذين استنجدوا بها، ولكن ما حدث ويحدث هو العكس تماما،
.فالحزن يخيم على البلاد، والقتل احد العناوين الرئيسية للازمة فيها، وصراع الميليشيات، او بالاحرى ثوار الامس يزداد احتداما.
ففي الثالث والعشرين من تشرين الاول (اكتوبر) عام 2011، اي بعد ثلاثة ايام من مقتل العقيد القذافي بطريقة دموية بشعة تتواضع امامها اعدامات “الدولة الاسلامية” التي فاقت وحشية اعداماتها الجميع وباتت على كل لسان، حيث جرى عرض جثمانه في حاوية خضار لمدة ثلاثة ايام تشفيا حتى تعفن، وفاحت رائحته، اعلن المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي المؤقت “التحرير التام” لليبيا وسط احتفال جماهيري في مدينة بنغازي التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة، واباح تعدد الزوجات، وتطبيق الشريعة، والثأر من جميع رجالات النظام السابق، ونسي انه كان قاضيا ووزير عدل في حكومته.
مدينة بنغازي التي تدخلت طائرات حلف الناتو لمنع مجزرة فيها، حلت دوي الانفجارات فيها محل الاغاني والاهازيج وقرع الطبول احتفالا بهذه المناسبة، حيث تعيش صدامات دامية بين قوات اللواء خليفة حفتر وقوات انصار الشريعة والجماعات الاسلامية الاخرى وسقط من جرائها اكثر من مئة ليبي في الايام الخمسة الماضية فقط، وآلة القتل مستمرة والعداد يسجل اعداد القتلى.
***
الخبير العسكري سليمان البرعصي كان جريئا عندما قال في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية الاربعاء: “نتيجة لحال الفلتان الامني الذي ساد البلاد عقب انتفاضة 17 فبراير (شباط) عام 2011 قتل عدد من الليبيين يكاد يماثل عدد الذين قتلوا من اجل التخلص من حكم القذافي الديكتاتوري الذي دام اكثر من 42 عاما”.
ما لم يقله السيد البرعصي، ان عدد من قتلوا اثر الانفلات الامني، والاقتتال بين الميليشيات المسلحة التي تخوض صراعا على السلطة فيما بينها يزيد عن خمسة اضعاف من قتلهم نظام القذافي على مدى الاربعين عاما من حكمه، ان لم يكن اكثر بكثير، وفوق هذا انهيار كامل للدولة ومؤسساتها، واستفحال الفساد، وانعدام الخدمات الاساسية وهجرة ثلث الشعب الليبي، الى خارج البلاد طلبا للسلامة في دول الجوار وخاصة مصر وتونس، ولو توفرت الامكانيات المادية للثلثين الباقيين لربما غادروا بدورهم الى المنافي، وتركوا البلاد بقضها وقضيضها، للميليشيات المتقاتلة.
زعماء الدول التي شاركت طائراتها وقواتها الخاصة، والعربية منها على وجه الخصوص، التي “حررت” ليبيا، ووعدت بتحويلها الى جنة الله في ارضه، وغابوا جميعا عن هذه المناسبة، ولم يبعثوا حتى ببرقيات تهنئة للقيادة الليبية الجديدة، فلمن يبعثوا هذه البرقيات، لحكومة عبد الله الثني في طبرق، ام لحكومة عمر الحاسي في طرابلس؟
ليبيا هي الوحيدة في العالم التي تملك حكومتين وبرلمانين وجيشين، وعشرات الميليشيات المسلحة، واهل بنغازي لا يعرفون ما يحدث في طرابلس، والاثنان لا يعرفان ما يجري في سبها او مناطق اخرى في البلاد، وان حاولوا فلن يتلقوا غير اخبار القتل والخراب والانفلات الامني.
كيف يحدث هذا، والى متى ستستمر هذه “اللوغاريتمات” لا احد يعرف الاجابة، ومن يعرفها سيتردد في قولها، اذا كان كاتبا او اعلاميا، لان الميليشيات جاهزة لاقتحام مقر صحيفته او محطته التلفزيونية واقتياده الى مكان مجهول واطلاق النار على رأسه، هذا ان لم تقتله في قلب مكتبه، فشهداء الصحافة في ليبيا هم الاطول قامة والاكثر عددا في العالم بأسره.
حلف الناتو لم يستجب لنداءات الاغاثة التي اطلقها السيد الثني رئيس الوزراء وما زال يطلقها، ولم نر السيد برنارد هنري ليفي فيلسوف الانتفاضة، او الثورة الليبية، يتجول في مدينة بنغازي مزهوا مثلما كان يفعل عندما كان يتابع تطورات الثورة التي هندسها، ولم يمسك سماعة الهاتف مخاطبا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وحثه على التدخل العسكري مجددا لانقاذ ليبيا ووقف المجازر فيها، مثلما فعل مع صديقه نيكولا ساركوزي.
الطبيب الليبي صلاح العقوري كان يعكس القيم الليبية في الشجاعة والصراحة وقول كلمة الحق التي يتردد الكثيرون عن قولها مكابرة او خوفا، او الاثنين معا، عندما قال للوكالة الفرنسية نفسها وننقل حرفيا: “الفوضى انهكت الليبيين، والصراعات الجهوية والايديولوجية والقبلية باتت ادهى من القبضة الامنية والحكم الديكتاتوري السابق”، واضاف “ان عددا من الليبيين باتوا يترحمون على ذلك النظام السابق على الرغم من كرههم له، ويحنون لعودته لاعادة بعض النظام وانا واحد من هؤلاء”.
***
أذكر انني كتبت مقالا عارضت فيه تدخل حلف الناتو في ليبيا، ليس من منطلق تأييدي للنظام وزعيمه الذي هددني بالقتل، وانما حرصا على الشعب الليبي الطيب المضياف الذي عشت بين ربوعه لفترة وجيزة ولا يهتم به احد هذه الايام، وخوفا من النتائج الكارثية لهذا التدخل العسكري، وحذرت من ان ليبيا ستصبح مثل الصومال والعراق وافغانستان، دولة فاشلة تعمها الفوضى الدموية، ولكن بعض الاصدقاء الليبيين في حينها، وعلى رأسهم زميل الدراسة عبد الرحمن شلقم وزير الخارجية الاسبق رد علي معارضا بشدة ولكن بأدب شديد، وقال لي ان ليبيا ستصبح واحة من الاستقرار والتلاحم والازدهار الاقتصادي فور سقوط نظام العقيد الديكتاتوري، ونشرت رده كاملا في صحيفتي السابقة، ولم احذف منه كلمة واحدة وكل تعليقات القراء التي جاءت غالبيتها الساحقة مؤيدة له ومعارضة لوجهة نظري.
عندما اسقط الليبيون نظام حكم العقيد معمر القذافي توقع معظمهم ان تصبح ليبيا “دبي اخرى”، فجاءت النتيجة “صومال اخرى” بل اسوأ، وباتت الغالبية الساحقة تحلم بالهجرة الى اي مكان في العالم وتحولت ليبيا وشواطئها الطويلة (الف كليومتر) منطلقا للهجرات الى الجانب الشمالي من ساحل المتوسط.
نتمنى على جميع الذين خدعوا الشعب الليبي، واوصلوه الى هذا الوضع المزري، ان يتحلوا بالشجاعة ويعتذروا له عن جرائمهم في حقه وتدميرهم لبلده وتمزيقها جغرافيا وديمغرافيا وقبليا، ولكنهم، او معظمهم، لا يعرفون قيم الشجاعة، ولا يمتلكونها او حتى الحد الادنى منها ويعترفون بذنبهم ويطلبون المغفرة ، ولهذا لا يريد هذا الشعب الصابر الطيب الاصيل مثل هذا الاعتذار، ولا ينتظره ولكن الى حين.