هل أتوقف أملا ؟
في موريتانيا، بلد العجائب، كثيرا ما تجد نفسك مسدودة عن كل شيء خاصة التفكير والكتابة بسبب جفاف المناخ بطبيعته وضعف الحوافز والمشجعات وتوقف الإنتاج العقلي والفكري تماما، إلا في حالات نادرة ومتجاورة في الغالب لتنضم إليها.
الاختلالات الكبرى في سلوك السلطة وتعاملها مع القضايا الأساسية للبلد، واحد من المثبطات الكبرى لأصحاب العقول، وكلما توسمت خيرا في ظرف ما، كلما جاءت الأقدار لتكشف لك أنك تتوهم، وأننا نقع تحت كلكل عصر التفاهة دون أي مقاومة - تلك الكلمة التي نجد منها غضاضة في النفس -وأنه يتغلب علينا وقد أخذنا منه نصيب غيرنا إلى نصيبنا، للأسف.
في محاولة الحديث عن التحديات الجارفة التي تواجه بلدنا في سلسلة ملفات على طاولة غزواني، كنت بعيدا عن ترف الكتابة، فليس لدي ما يسد الرمق بالكاد من ذلك. أسعى إلى المشاركة مع الإخوة، أصحاب الشأن وأصحاب التفكير، في بلورة وضعيتنا الحالية ومآلاتها في نهدة وطنية تستهدف العقل والضمير والمسؤولية الوطنية والأخلاقية. وهكذا لم يكن النقد من أجل النقد ولا التحليل من أجل المتعة، بل لأجل تصحيح أو تقويم أو تقييم بعض المسارات التي تهدف للتمايز وبعض المواقف والقرارات الخاطئة في حين يتطلب الأمر كل الجهود: متراصة ومترابطة ومتكاتفة، لأنه يرسم أمامنا خريطة الفناء أو الفشل، لأننا -وهذه حقيقة لا تصلح للمواربة - نصلح لأن نكون هدفاً مشاعا ومرساة ومفرجة لكثير من الأزمات والأوضاع (الهجرة والغاز والطاقة) لأوروبا وفي شبه المنطقة في وضع خطير، وليس نحن من نسيره وحدنا، بل نحن أضعف من يمسك طرفا من أوراقه. وهكذا يتطلب تصوير الحالة والمشاركة في تخطيها درجة عالية من التخلص من النوازع والأهداف الضيقة والأنانيات وتحمل المسؤولية وخطاب العقول والضمائر والدعوة للحزم، بدل حالة الأعمى التي تنطبق علينا: "يحفر في مكان ويبصق خارجه "، أو "عگدت خِيّْرَه": رخوة وهينة ولينة . وهكذا عندما تخاف الصين والولايات المتحدة وأوروبا على مستقبلهم، تعيش موريتانيا حالة رخاء في الغفلة وعدم الاكتراث أوالخوف على الحاضر أو المستقبل، وهكذا أيضا كلما حاولت، من خلال دوري كمراقب ومتابع ومنشغل بالوضع، إثارة الرأي حوله، لاحظت عبثية أكبر ومبالغة في تجاهل العقل والعقلاء والعطاء الذي يخاطب الفكر والإنسان الوطني المسؤول من قبل السلطة، يقابله توجه عميق وحثيث نحو السوقية والارتجال والفتات. وأجدني حائرا يائسا في شد الانتباه أو استمالته لعله يرعوي عن مسار الغفلة وينتبه لضرورة التخطيط والاستشعار والرصد، دون جدوى. وليس ذلك -والحق يقال- من ضعف الحجج، ولا ركاكة الأسلوب، أو لضعف في السبك، أو وضاعة في المقصد، ولا تملق لحاكم، ولا ريبة في الوطنية، ولا لائمة في الله ولا في الوطن. ومع ذلك أجدني في وضع ممض مع باقي جهود الإخوة الخيرين من أصحاب العطاءات الذين "يحلبون ناقتهم في الظاية" رغم أن الوقت يمر ويضيع، على خطورته وتأججه.
ولعل شاردة على الرأي العام من اخباري واردة هنا، وهي أن الوطن ظل بيضتنا وحمانا الذي ظل الأجداد يحافظون عليه بالمدافع. وعندما تخلينا للدولة الوطنية عن ذلك، أصبح الرأي الصريح والتعبير الصادق والمواقف الثابتة هي ما نذود به عن الوطن وهي سلاحنا. ولعل العقود التي انصرمت من العمر مؤيدة وشاهدة على ذلك القصد.
عصر التفاهة هذا جعل سطرا سوقيا أو جملة قدحية أفضل من مقال فكري تصويبي أو تقييمي أو دراسة اقتصادية رصينة أو اقتراحات علمية من أصحاب الاختصاص، كل في مجاله، وجعل العالة رعاء الشاء، والمطبلين، بادئي الرأي، في الصف الذي يجلس فيه الرئيس في كل مناسبة. وليت الأمر توقف هناك، بل يبدون رأيهم في تحديد سياسات الدولة وإدارتها. وهكذا يقوم الانسجام، في عالمنا هذا الصغير والضعيف وغريب الفهم والطموح، إلى إخراجنا من دائرة التأثير من القرار الوطني دفعا ورميا خارج محيطه. ولعلنا لسنا الوحيدين، فكل القرارات والإعلانات الجيدة يتم التصرف بخلافها وعكسها وضدها رغم تعلق الشعب المسكين الفقير. وهكذا تتم صناعة الوهم في البلد، وتتحول إلى حقيقة، مما يؤثر في النهاية على مصداقية الحكومة، وبالتالي عدم قدرتها وشرعيتها في النهاية أيضا على تبني القرارات الصعبة. إنه الوضع الذي يفسر شيئا واحدا أن البلد يخسر فرص القدرة على التصدي للتحديات الكبرى، وأنه ليس بخير ، وأن فكرة تغيير الأمور من الداخل، وإصلاح ما أفسده دهر الأنظمة الغافلة، ضاق عليها الوقت، وأنها فكرة خاطئة، و غير واقعية.
والحقيقة أن البلد يحتاج إلى نمط مختلف، لا تمكن صناعته ضمن نفس الأسلوب الذي جاء برؤساء البلد إلى السلطة. لكنه بحاجة لتغيير يشبه الثورة. ليست بالضرورة تلك الثورة التي تملأ الشوارع أو التي تأتي من الخارج، لكن تلك التي تأتي بتغيير فكر الحاكم ومقاربته في التعاطي مع النخبة، أو تأتي بها سواعد النخبة ودوافع التغيير الذي ينبني على رؤية وطنية تقوم على حماية البلد وحراسة مضامينه العلمية والدينية والتاريخية والتراثية، ثورة تأتي بنمط مختلف يحمل هم الوطن ويعطي للتحديات قدرها وفق خطورتها على البلد، وببث الروح الوطنية في القرارات، ويعيد لإنسان هذه الأرض تشبعه بحبها والاستعداد للموت في سبيلها إحساسا بالمسؤوليات الشخصية والجماعية تجاه الوطن، وهو ما يعطي بعدا ومعنى مفقودين للفعل الوطني، ويغير ميكانيزمات القرار وتفكير الدولة، ويحدد التوجهات والبرامج بحجم التحديات بحيث تنخرط فيها النخبة والبلد بصفة عامة. وهنا، بين خيبة الأمل والرجاء المنكسر على ضعف النخب وتشرذمها وصعوبة انسجامها وضعف البنية العقلية لإنساننا الحالي وعدم فهم السلطة لمضامين التحولات التي نواجهها بضعف ، وعدم قدرة الرئيس على تثمين ظروف القبول التي تلقته واستعداده للعمل مع النخبة الصادقة، وانهزامية نظامه أمام تشابك الوضع وتضافر عقباته ، وغياب الشرعية القيادية ، أجدني في حيرة بين الترك والمواصلة.. فلماذا الكتابة ولمن ! الحقيقة أن أغلب الخطاب موجه للسلطة خاصة في المراحل التي يكون الإنسان في طرفها لأنه ينطلق من مبدأ الثقة والشراكة معها، وذلك يندرج تحت مقاربة محاولة دفع عجلة التغيير والإصلاح من الداخل، وهي طريقة لخدمة البلد، لكن عندما تكون كل أوراق اللعبة في حزام واحد مربوط بيد الرئيس، وتكون جميع الأمور أيضا مربوطة به شخصيا، فإن هذه الحالة تضع إشكالية كبيرة أمام طريقة تسيير بلد: تياراته وفاعليه ومبادراته. وهكذا ظل ضروريا تكوين نظام سياسي يسير تلك الأمور المختلفة والمتعارضة، وهو ما لم يتحقق .
وهناك طريقة أخرى تركز على الرأي العام ضد السلطة لأجل التأثير عليها وحملها ضد إرادتها والتركيز على مثالبها وأخطائها وتناقضاتها ونواقصها ونوازعها . وهذا أيضا يطرح مشكلة، فعزواني ليس مستعدا للأولى ولا يحب الثانية. وهكذا مات الإعلام وماتت السياسية في البلد، فالأولى لا يراد من صاحبها سوى الصمت، والثانية لا يتم التعاطي مع صاحبها إلا بعد القدح. وهكذا تحددت مميزات مقاربة التهدئة التي تضفي الطابع والعلاقات الشخصية مع الجميع بدل الاطار الوظيفي للعملية السياسية والإعلامية. ولهذا ظلت اللقاءات مع القادة السياسيين لا تتوقف وظلت الحوارات فاشلة في تحقيق التوافق الوطني والانسجام حول أهداف المرحلة . وهكذا كلما توقف مسار العلاقات الشخصية مع شخص الرئيس غزواني، كلما عادت الأمور إلى نقطة الصفر، لأنه في الحقيقة تم فك الارتباط مع "النظام".
إن الناس الذين دعموا غزواني من غير الدائرة الأولى، يدورون في الفراغ، وكل الأماني التي تمنح لهم هي لقاء الرئيس. وفي حالة ما توفر للبعض، سواء بشأن الشراكة أو بشأن تسوية الأوضاع، فإنه يعود تلقائيا للفراغ، فلن تجد تلك التوصيات طريقها للتنفيذ في الغالب ولا من يسهر عليها، في حين لا يوجد إطار وظيفي يمكن الانتماء إليه والتأثير من خلاله. وهذا يجعل الكثيرين يفكرون في تجربة الطريق الثاني بعد اليأس من جدوائية الطريق الأول.
إنها في هذه الحالة ستكون نهاية مؤلمة لنظام بدأ سعيدا مثل الانتقال من فرح إلى مأتم .