رحلة في ذاكرة مسار اللغة العربية في مدارسنا النظامية...[2]/ محمد فال ولد بلال

2014-08-18 11:54:00

بحكم النظام التربوي القائم آنذاك, انقسمنا إلى قسمين ابتداءً من السنة 3 في الاعدادية : قسم فرنسي - إنجليزي [شعبة أ] و قسم فرنسي - عربي [شعبة ب]...كلّ الاخوة الزنوج تقريبا كانوا في شعبة [أ], في حين أنّ بعض العرب كانوا يختارون الانجليزية لضعف مستواهم في اللغة العربية أو لاعتبارات أخرى...

.


1963, حضرْتُ يوما عظيما...يوم تغيير اسم المؤسسة من"كبولاني" [Coppolani] إلى "ثانويّة روصو" [Lycée de Rosso]..كان يوما مشهودا. بدأ برفع العلم الوطني على واجهة مبنى الادارة , و أداء النشيد الوطني من قبل الحاضرين , ثمّ مباريات في كرة القدم مع ثانوية " كصتون برجي "[Gaston Berger] القادمة من كولخ في السنغال...المستعمر كان قد أهدى أهم مؤسسة تعليميّة في البلاد لروح مُنظّر الغزو الفرنسي لأراضينا و المؤسّس الفعلي للمستعمرة الموريتانيّة..."كزافيي كبّولاني" هذا وُلد في فرنسا, و ترعرع في الجزائر حيث تعلّم اللغة العربيّة و أخذ معلومات عن الاسلام لمساعدته في مهامّه العدوانيّة... تقدم بدراسة ترمي الى تأسيس مستعمرة في المناطق الصحراويّة عام 1899 ، قبل أنْ يدخل المنطقة من جهة "اندر" عام 1902...قُتل "كبولاني " في عمليّة نوعيّة للمقاومة الباسلة بقيّادة الشهيد سيدي ولد مولاي الزين [مايو 1905]في تجكجة...


1964 , قرّرت الدولة إدخال نقاط اللغة العربية في احتساب المعدّل العام للتلميذ الذي يتحدّد من خلاله رسوبه أو تجاوزه الى الصف الأعلى...و بدأنا السنة الدراسية بلا أستاذ رسمي للعربيّة...و لملء الفراغ, كلفت الادارة السيد ديدي ولد اسويدي[رحمه الله] بإعطاء دروس لفصول الثانويّة...و هو آنذاك مدير لشركة للنقل في روصو[نوزونوترام Nosonatram]...و معلوم أنّ المرحوم ديدي كان من زعماء "رابطة الشباب الموريتانية " المُقرّبة من "النهضة "، و كان له اهتمام كبير باللغة العربية...و بعد شهرين أو 3 من الصراع و الاحتجاج المستمر , جاءنا أستاذ جديد اسمه محمد يحيى ولد خيري. أعتقد أنّه قادم من تونس...أستاذ مُقتدر، ممتاز , جدّي, و مجتهد, لا يُمازح و لا يُعطي النقاط هدرا : في الحد الأقصى ما بين 12-15...


1965، تقرّر تحويل أقسام البكلوريا الى انواكشوط...ودّعْتُ ثانويّة روصو توديع الابن لأمّه, والحبيب لأحبّته, و الفرخ لعشه...لقد أحببت ثانويّة روصو حبّا حقيقيا، مُفعما بالرضا و الذكريات الجميلة...كيف لا ؟ و قد سهرتُ لياليها, و احتفلتُ بأيّامها, واستنشقتُ هواءها, وقرأتُ كتبها, وسوّدتُ دفاترها, و حصدتُ بعضا من جوائزها، وتجوّلتُ في قيعانها, و عشقتُ رقصها و غناها...
غادرت روصو و جئت الى العاصمة شهر اكتوبر 65, موعد افتتاح السنة الدراسيّة...و كانت أوّل مرّة أرى فيها انواكشوط التي طالما سمعت عنها و تطلّعت الى رؤيتها...مدينة جميلة, عصريّة, نظيفة...وجدتُ فيها بعض الأهل و الأقرباء...كنتُ أمرُّ بهم كلما دعت الحاجة الى شيء: درّاعَ, نقود, أتاي، غداء خارج المدرسة, و نحو ذلك...
بدأتْ الدراسة بهدوء و انتظام...الى أن صدر في يناير 1966 مرسوم يتعلّقُ بتطبيق قانون يقضي بإلزاميّة اللغة العربية في التّعليم الثّانوي...قانون قد صادق عليه البرلمان قبل ذلك في الراحة المدرسية...و جاء الرّد سريعا من التلاميذ و الموظفين الزنوج...إضراب عنيف، ومظاهرات صاخبة، و محاولات لمنع الدراسة و العمل في الادارة بالقوة...الأمرُ الذي أدّى الى وقوع اشتباكات داميّة في الثانوية و مدرسة تكوين المعلمين بين الأخوين العربي و الزنجي...قبل أن تخرج عن السّيطرة و تمتدّ الى احياء نواكشوط و بقيّة المدارس داخل البلاد...

كان ذلك في يوم الأربعاء 4 يناير 1966...الحصيلة الرّسميّة 6 قتلى و 30 جريحا...و في الواقع , عدد الضحايا أكثر مما قيل...كنت ذلك اليوم من جملة المشاغبين في المدينة...أرهقتُ نفسي بالجري هنا و هناك على نحو فضولي مع العامّة...فقط لأقول كمراهق سفيه: إني كنتُ هناك !!! الشارع لم يهدأ من السابعة صباحا حتى الساعة الخامسة مساء بعد أنْ تدخّل المرحوم النقيب اسويدات ولد ودّاد[رحمه الله] على رأس فرق من الجيش...

من الواضح للجميع أنّ تحرّك الطّلبة الزّنوج كان تحرّكا سياسيّا بامتياز...بل تبيّن أنّه جزء من ثورة عامة و عارمة بقيّادة مجموعة البيان المعروف ببيان الـ 19، الذي طرح بإلحاح و بحِدّة مسألة اللغات و الهويّة و التّعايش بين مكوّنات الشّعب الموريتاني... و بعد يوم أو يومين ، عاد الهدوء إلى العاصمة و سائر مدن البلاد..هدوء مشاب بالحذر و القلق. و في يوم 6 يناير ، قررت الحكومة إغلاق المدارس حثى إشعار جديد..و يوم 7، أُبلغتُ بأننا سنغادرُ في الساعة 8 صباحا من يوم 8 بالطائرة إلى مطار ألاك ، مع توقّف قصير في مطار بوتلميت...و من ثم بالسيارة إلى مقطع لحجار...الطائرة ؟؟؟؟ معقولة ؟؟؟ أنا أركبُ الطائرة ؟؟؟ قضيتُ ليلة كاملة بلا نوم...و عواصف من الأفكار تعصفُ في ذهني...تارة أفكّرُ في الموت و أنهمكُ في الاستغفار و الدعاء ، و مطالعة أذكار السفر و آيات الحفظ و النجاة ... و تارة أتذكّرُ دروس الفيزيا من السنة الماضية و قوانين الحركة و الجاذبية ، و نظريات إسحاق نيوتون في حركة الأجرام السماوية ، و الرياح ، و المطبّات الهوائية ، إلخ...ليلة لا تُنسى!!!
يتواصل إن شاء الله...

 

من صفحة الوزير والدبلوماسي محمد فال ولد بلال على الفيس بوك

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122