د. الدكتور محمد الأمين الناتى يكتب: في معنى الإعجاب/8

2017-04-18 08:51:00

كنت قد شكوت ـ أنا ومن معي، أو من أنا معه ـ مما أصمَّ الآذان عموما، وآذانَ الفاعلين الثقافيِّين، والمُهتمِّين بالتعليم، على وجه الخصوص، من حِدَّة التقارير والتصريحات المُشخِّصة واقعَ التعليم في بلادنا، والتي تتواتر على أنَّه واقع مأزوم ـ كما هي دالَّةٌ ملامح واقعنا المَعِيش ـ في كل أبعاده وجميع مستوياته؛ وغيْرُ خافٍ أنَّ هذا التواتُر، مثله مثل الاطِّراد في التوافُق، بين ألئك المُشخِّصين وبيننا وبين كل مُلاحِظ لهذا الواقع، ذي الاختلالات المُسْتفحِل أمرُها، والبادي استحكامها.

.


لا ريب ـ إذن ـ في أن أمْرَنا بتهالُك مُقوِّماته، محلُّ اتِّفاق؛ على أن الخلاف بيننا في تشخيص المُختلِّ، وفي تحديد أسبابه، وفي حدود القصور الذي يعاني منه؛ فأوصاف الفساد المستشري، والاختلال البيِّن، والقصور الحادِّ، أوصافٌ يزْخر بها خطابنا، من مختلف أوضاع المتكلمين، الذين مردوا على التعجُّل، واسْتمْرءوا التبسيط، واستسهال المُعْضِلات، روْمًا لحلِّها بعاجل الإجراءات، المبنية على ساذَج التصورات؛ لأن الأحادية والتفرُّد هما محدِّدُ البنية في الواقع، ومُرجِّح وحدانية العامل، وأَوْحدية التأثير الفعلي.
معنى هذا أن تساوُق الأحاديث، من دائرة "الخُوَيْصَّة" في مُسْتويات الجدل الاجتماعي الدنيا، إلى مستوى "الأُحادية" في تعاطي الشأن العام، مُنطلِق من أن الظواهر المَرَضِيَّة، وأوجُه الاختلال ـ في أمورنا ـ بِصِلة من تفهُّمِنا واقعَنا، المحدِّد ما يتراءى من مُعِيقات، وما نسعى إليه من حلول، وما نحدِّد من أهداف، وما نرْسُم من غايات نَبْغي في حركتنا الوصول إليها. تلك الأحادية هي مُؤَدَّى المنْزعِ التجزيئي، الآئِل بنا إلى فصْل أبعاد الإنسان النفسية والعقلية والجسمية بعضها عن بعضٍ، وتحديد أهداف تراعي سدَّ حاجاته، في بعض هذه النواحي دون الأخرى.
إننا ـ بهذا ـ غيْرُ مُدرِكِين أنَّ شروط وجود الإنسان ضروراتٌ لا بد من توافُرها جميعا، وفي حدود دُنْيا من ذلك التوافُر لا بُدَّ أن تأتي الحاجات دَفْعةً واحدة؛ ذلك هو معنى أن الإنسان حين يرى النور، يواجه الحياة باكيا، صارخا في وجه الغبْن والظلْم، مُنبِّها إلى أنْ قد طرق باب الدنيا كائن يريد حقه في حياة، يسودها العدل والوفرة؛ له فيها نصيب من القوت وقسط من الحنان، وحماية بالرعاية؛ لينمو شيئا فشيئا، وهو يتفهَّم أنَّ تلك الحقوق التي صرخ في أول مواجهة مع الحياة من أجلها، ستخضع لعلاقته في انْتِظامها مع الآخرين، حادًّا بالتدرُّج ـ عن طريق التفاعل مع الآخرين ـ من غرائزه وميوله الفردية؛ وتضمن الجماعة بذلك معنى التكافِّ، الذي هو صورة أرقى في الوجود الاجتماعي.
بالتخلِّي عن المنزع التجزيئي التبسيطي للظواهر، يكون المسْعى التكامُليُّ، الذي يرى التعدُّد التكويني والسببي ضروريا في التشخيص الصحيح، والتوصيف المطابق لواقع الإنسان؛ وفي مقابل التجزيئية في النظر إلى تشكُّل الظواهر، تتعَيَّن المقاربة التفكيكية في التحليل؛ تلمُّسًا لمعرفة مفرداتها التكوينية، وتحديد العوامل الفاعلة فيها؛ ليتسنَّى ـ إثْرَ ذلك ـ اقتراح الحلول الناجعة لتجاوز الاختلالات، وتقويم الأوضاع، ورسْم الخطط المراعية لطبيعة الظاهرة، لبلوغ الأهداف الموائمة بين الحاجات والإمكانات؛ وذلك هو التخطيط العلمي القويم. و عملا بما تعهَّدْت به من التصدي لمحاولة الإسهام في كشْف خَبِيء ذلك، ما زلت ناويا المُضِيَّ فيما قد بدأت…
وسوى هذه النظرة المراعية أبعادَ الإنسان المختلفة، يكون العمْد إلى البرمجة غير المتكاملة في التربية والتعليم؛ وخطط التنمية الاقتصادية المُتعثِّرة؛ لأنَّ أساس كلِّ تنمية محكمة التخطيط، وأن تكون شاملة ومستديمة؛ مُنْطلقُها أنَّ الإنسان هو غايتها ووسيلتها ـ في آن ـ مستجيبة لحاجاته وضرورات وجوده؛ وأنَّ تلك الحاجات والضرورات متجددة؛ في سيرورة أبدية يُعْجِزُنا إدراكُها جميعا، وتفوتنا الإحاطة بها في الراهن.
وخطوات تفكيك بنية الأزمة؛ وبيان مواطن الاختلال ـ إن شاء الله ـ لاحقة.

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122