جماليات الصورة في الشعر الحساني موضوع محاضرة بالثقافي المغربي

2017-04-13 03:11:00

احتضنت قاعة المحاضرات بالمركز الثقافي المغربي فى نواكشوط أمس ندوة ثافية تضمنت محاضرة تحت عنوان "جماليات الصورة في الشعر الحساني" ألقاها الإعلامي والباحث المعروف الدده محمد الأمين السالك وذلك وسط حضور ثقافي وأدبي كبير.

.

الندوة افتتحها مريد المركز السيد فيصل فرشادو بكلمة رحب فى مستهلها بالحضور قبل أن يستعرض نبدة من حياة المحاضر، مختتما بتقديم عرض موجز عن موضوع المحاضرة.

وهذا نص المحاضرة:

 

جماليات الصورة في الشعر الحساني

نظرة عامة :

 

الشعر الحساني ذاكرة حية للتاريخ الوطني، و مستودع آمن للموروث الحضاري للشعب الموريتاني بكل أبعاده وعطاآته المختلفة، فهو سجل الوقائع السياسية والملاحم البطولية .. وديوان الأخلاق الكريمة والتوجيهات الحميدة والقيم السامية، وخزان المروءة والفضيلة.

والشعر الحساني برهان ساطع على عظمة الموريتانيين و قدرتهم على الإبداع والتميز وسعة مخيلتهم وسلامة نظرتهم التصويرية والفنية العامة.

كما أنه مخزن أسرار المحبين ومستودعها الآمن والملاذ الذي يلجأون إليه للتعبير عما تعتلج به نفوسهم المعذبة .. فهم تارة يلجأون إلى المناجاة والشكوى ومطارحة الغرام:

انِّ نبْغِيكْ اصدَكَـتْ           ابْغيْتكْ صرتكْ ذِيكْ

يَخيْتِ ما صدَّكَــتْ            اعليــكْ انِّ نبْغـــِيـكْ

وطورا يكون التعبير بآهات مكبوتة وأنات حارة تعبر عن " نيران تلظى قلوب العاشقين لها وقود" .. أشبه ما تكون بحديث النفس:

حرَّكْ يَانَ والكَـطْ شفْتْ       يانَ واللالكْ يَان َ

ماذَ ورَّاكْ احيزم منتْ       ببانَ من لِهــــانَ

فالشعر الحساني ظاهرة أدبية رفيعة عجيبة في روعتها، وحميميتها وملامستها للوجدان .. فقدرته التعبيرية نادرة في غيره .. يزخر بالرؤى الحسية والجمالية الرائعة .. بل هو تجسيد منطوق لقيمة الجمال إن صح هذا التعبير:

ولَّ لاغْل قيْدات اليْ                 باعظَيْم المرار ولبنيْ

منِّ شِ .. وامنين اكَـصُجيْ         الحكَـتُ ولَّ منِّ شِ

و ولَّ شِ من ركَـبتْ لُديْ         و ولَّ شِ بالباطنْ قرشِ

غير آن كَاع إلاَ تميْتْ             كل ابْلَدْ يرجعْ منِّ شِ

مالاه يلحكْ تِيويليت              واعليبْ أطافْ الِّ يمشِ

ولقد برع الشعراء الحسانيون في التعامل مع أدوات التعبير بشكل غريبوتمكنوا من ناصيتها وطوعوها لأغراضهم الإبداعية يتصرفون فيها أنى شاءوا :

فامنين اغلَ لغْيَادْ        وسَاتْ اتسَوحِيلَ

أصلْ ادلِيل ماعادْ      منهَ راصْ اعدِيل

هذا النوع من التعبير غريب في عذوبته وقربه من النفس وانسيابيته :

يابراهيم يلا جيتْ           لاهلْ براهِيم العبدْ

كوللهمْ عنَّكْ ريتْ          حد اسوَّلْ عنْ حدْ

فجماليات الشعر الحساني لا حصر لها .. ونتناول في هذه الدردشة واحدة من أروعها، هي جمالية الصورة وعنها حدث ولا حرج.

عندما أقول الصورة فلا أعني الصورة البلاغية .. إنما أعني الصورة بمختلف معانيها : اللقطة – البانوراما – تداخل الأبعاد – صورة الزمن ..إلخ.

فالصورة في الشعر الحساني تعد من أروع الجماليات التي يستخدمها الشعراء ويتفننون فيها بشكل إبداعي رائع، يتحول فيه اللامحسوس إلى محسوس ويمتزج المعنوي بالمادي في نوع من البلاغة..محاولة التعبير عنه تفقده جوهره المتمثل في الإحساس الخفي الطافح بالحميمية والجمال.

وتتنوع الصورة في الشعر الحساني، وتأخذ أشكالا مختلفة : مادية ومعنوية .. وحتى شعورية إن صح هذا التعبير .. كما أنها تأتي لقطة تارة، وطورا بانورامية .. مادية مرئية مرة، ومعنوية محسوسة مرة.

كتصوير الأماكن والمعالم، وتصوير الزمن والمشاعر .. إلخ .

1- الصورة – اللقطة :

إن الصورة اللقطة عبارة عن تصوير ومضة ذهن حول شيء ما في لحظة..

وقدرة الشاعر تتجلى في حسن اختيار الهدف : اللقطة

هذَ بلْ ارمـــاَد النِّيـرانْ         دار امْعانَ ولْ اعميْره

وهذَ هوَّ لحشِيشْ الكانْ         منْشُورَ فوْكَـُ لحْصـيرَه

لقطة في منتهى الدقة : لحشيش الكان منشور فوكو لحصيرة .. وسيلة كان البدو يستخدمونها، يضعون الحشيش تحت الحصائر حتى لا تأكلها الأرضة.
فالشاعر يجعل المرء يرى نفسه وكأنه ينظر إلى الحدث بأم عينه:

يامِسْ دار إبِلْقَانْ احْيَاتْ ===ذاك الِّ شكَّيْتْ انُّ ماتْ

من تلياعِ فيهَ وامْحاتْ = ==من لَخْلاگ الِّ خاطيهَ

اتلَفَّتْ اعليهَ مرّاتْ = ===كيفْ الِّ ناسِ شِ فيهَ

واعگبتْ امنينْ ابعيدْ ابگاتْ ==== انْبَيْتْ اتلفَّتْ اعليهَ

تِلْفيتَ مِنِّ ما خَلاَّتْ ==== فَظْلَ لاهِ نَكْرَهْ بيهَ

والَّ نِبْغِ ذَلِّ موجودْ = ===اتلَ فدِّنْيَ خاطيهَ

ماهْ اتلَ خالگ لَيْنْ انعودْ ==== نكرهَّ واللَّ نبغيهَ

محل الشاهد : انبيت اتلفت اعليه .. هذه التلفيته هي الصورة التي التقطها الشاعر ليضمنها ما يعتلج في نفسه من ألم و شوق ووله .. فهو لم تبق منه بقية يكره بها أو يحب .. لقد ذابت نفسه تحت حرارة التلفيتة .

وقد تكون اللقطة مركبة من صورتين التقطتهما عين الشاعر في آن معا فاندمجتا مع بعضهما ليشكلا بؤرة وجد تأكل القلوب المعذبة :

يامس تدْلِيتْ اكتَابْ      اعزِيزَ ذِيك اعذّابْ

اتْركَّبْ خربْ افبابْ     خيمتــْهُم تركَــــابُ

هوَّ حالـــتْ تركَاب     لخــرَابْ اعلَ بابُ

محل الشاهد : صورة مركبة من تدليت اكتاب اعزيزه، ومكابدتها مع تركاب الخرب افباب الخيمه .

هذه هي الصورة التى التقطها الشاعر وانطبعت في وجدانه وحفرت مكانا لا تبارحه في أعماق نفسه المعذبة .

2-الصورة البانورامية :

ومن أروع جماليات التصوير في الشعر الحساني الصورة البانورامية .. التي تستوعب المكان بكل ما فيه من أشياء حيث يمتزج الجماد بالحياة .. والواقع بالتصوري .. والمتحرك بالثابت .. فتأتي الصورة ناطقة مفعمة بالحياة متعددة الأبعاد، يندمج فيها الزمان بالمكان وتتداخل الشخوص ليأخذ كل موقعه على اللوحة الصورة :

مانبغ يالواحد فالذات          تكتلني يمول الصفات

ماشفت اخويمات اكلالات      اخريف اعل راص اُريم

واغنيم ساحل لخويمات         عند امليزم فيه اجقيم

واكليب تنبح واجديات        واذويب احاوت لغنيم

فهذا الشاعر التقط صورة دقيقة لموقع كامل بكل عناصره .. فاستخدم الأبعاد زمانا ومكانا والعناصر المتحركة والثابتة، داخل بانوراما الصورة .

الخيام على مرتفع أرضي مريح " أُريمة " تحف به الخضرة " اخريف " – الغنم - وصغارها "اجديات"– ملزم الماء : البِركة – الكلب النابح و الذئب المتربص .

كل شخوص المكان تجلت في الصورة متراصة جنبا إلى جنب لتشكل صورة وخليطا من الأصوات ناطقة بصمت _ والصمت في حرم الجمال جمال _ صورة يختلط فيها همس الطبيعة الخافت وعنفوان الحياة الصاخب .

وقد تكتظ الصورة بالحضور المكثف للأماكن فتطغي المعالم على الرسام، الشاعر بما فيها من ذكريات حلوة أو مريرة، فيرسم بريشة الشعر لوحة ناطقة بالجمال مليئة بالحيرة والمعاناة :

لغرام الل منو متكنت        وامن احزيمو ماكط اسلمت

جان من ذ لوكار ال شفت      وابحرت اللي جدد لغرام

ايلا كَلت أكمون اكذبت    وايلا كلت المبروك احرام

ولاه حكم الكار .. وابحرت    وعت انكولنو بلعظام

وان مانعرف بين كنت        كاع امع بلعظام اعظام

واثرو جكنياي المزروف    شفت آغيل غيد التبسام

عندو .. وامكابلن ذالجوف       اللي كنت انعد اف لكلام

الشاعر وضع صورة متعددة اللقطات متحركة تنتقل من معلم إلى معلم .. صورة وضعت منطقة بكاملها تحت بعد مجهري غاية في الروعة .

3-صورة الزمن

إن الإحساس المكثف بالزمن يخلق عند الشاعر الحساني زمنا شعريا خاصا متعدد الأبعاد الدلالية : الموضوعية والمعنوية، مثل زمان الزمان : بليله ونهاره وصيفه وشتائه، وزمان المكان : بغضه الحاضر ودارسه الغائب بلحظاته المحتدمة بكل شيء .. بالانفعال الوجداني الصاخب الصامت بشخوصه وذكرياته : فيتحول الفعل إلى صورة .. ويتحول الزمان إلى صورة .. ويتحول المكان إلى صورة .. ويتحول الشاعر إلى رسام في خضم هذا السيل الجارف من الصور المتداخلة التي تولد الإحساس بطغيان ديمومة الفعل الوجداني الممتد عبر الذكريات ليربط الماضي بالحاضر، ثم تتحول اللحظة التي هي جزء من الزمن الحاضر إلى كلٍ تترابط فيه حلقات الأبعاد ماضيها وحاضرها لتجعل من الشاعر كتلة من الوجدان الملتهب تخطو على وجه الأرض فتترك أثرها شعرا ينقل شخوص الأمس المندثر إلى آن حاضر بكل معانيه وانفعالاته، فتكتمل وحدة الأزمنة في ظل المكان .

لُكان الِّ مزال اشقاب       في فالدني من لحباب

ول نبق مزلت اتراب      ول مزلت اعل باب

نبق ذ كامل من لعلاب      اُنبق ذاك العلب الناب

مخلاه الِّ عند دار     اذهاب عن بل احباب

وهو زاد ال شفت النار    اعليه و جيت امن اذهاب

اللحظة التي هي لحظة رؤية النار والمجيء من التيه، فرضت نفسها وهي تنتصب من جديد على الكثيب المرتفع : العلب الناب :

مخلاه الِّ عند دار     اذهاب عن بل احباب

وهو زاد ال شفت النار    اعليه و جيت امن اذهاب

وكما استطاع الشعراء الحسانيون أن يصوروا الأحداث بكل أبعادها المكانية، كذلك استطاعوا تصويرها زمنيا بشكل رائع، يظهر القدرة الفائقة للشاعر الحساني على التعامل مع الحدث بكل أبعاده الحسية والمعنوية :

وَكْرْ البَاطن مَجدُوبْ الْهِيبْ          دخل والسَّنْ وُ لَعْرَاكَـِيبْ

وامْرَاتَع لَكَـلَات امْجَــادِيبْ          اهمــات لَكَـْــلَاتْ ابْـــلاَمَ

غَيرْ البَاطنْ مَا فِيه الْعَــيْبْ           كَــدْ الِّ تَوْخَــظْ لَكْــــرَامَ

تَنْــزل بَاعْيَاش وُلَكَـْلَيــــْبْ           دخْـــل اعْرِيـــظْ وُ كـدامَ

هذا هو الصيف بعنفوانه ووطأته الحديدية وغطرسة مناخه الجهنمي .. بما فيه من جدب و حرارة وندرة في المياه، حيث لا ماء ولا مرعاء كما يقولون .. ولكن ذلك  كله يهون ما دام هناك من ينزل بعياش و لكَـليب و دخل اعريظ و كدام .

نَعْرَفْ ليلة فاكَـْرينْ       الْفرنَانْ الِّ بيْنْ

جَكَـنياتْ الثَّنْتَيْنْ            بتْ الَّا نتْنَيْمشْ

فابريكَـ اعمشْ وامْنَينْ        انكونْ ارتب يرمشْ

هذه البوادر الأولى للإنتقال من الصيف .. برق أعمش .. يظهر من بعيد ليحيي الأمل في النفوس، باقتراب فصل الرخاء .. ولكنه مازال " ابريكَـ اعمش " .. يظهر من بعيد .

اعْلاَشْ انْعُودْ افْـمَوْضَعْ كَادْ      فِيــهْ إِجِينِ زرْكْ التّفْكَادْ

واعْلاَشْ انْرَ دَارْ الْعَـــرَّادْ       يَامسْ فَوْكْ السَّبْخَ واعْلاَشْ

إِرَكَّبْلِ بِيرْ الْجَــــــوَّادْ            الْيُومْ أُ بِيـرْ أَرَاشْ أَرَاشْ

واعْلاَشْ امَّلِّ ذُ لَـــــيَّامْ           أَيَّامْ الْكَتْمَ وَ رَشْـــرَاشْ

نشَّوْشْ سَاحـلْ تنْدَكْعَامْ           وَانَ مَانِ حجْ تّشْــوَاشْ

هذه صورة دقيقة لأيام " اطاييح ارَّشْكَـ " وهي فترة شديدة على أهل البادية : جو قاتم وحرارة لاهبة وأمطارخفيفة لا تؤثر على الحالة العامة التي تتميز بالصعوبة والحدة والقلق، ثم الأمل في تغيير الواقع .. يذكيه برق ظهر وظهر مع أنه لم يتقدم :

شَـيَّـرْتْ و شَـيَّـرْتْ ولا جَيْتْ = يزَّاك امن التشيار اعْيَيْت

اعرفنا ذاك الِّي وَسَيْتْ = ذاك الي لِ شَـيَّـرْتْ اعْلِيهْ

فرظ انواسيه إلا كًــدَّيْت = وِيلَ ما كًــدَّيْتْ .. انواسيه

يَبْرَكًــْ شَـيَّـرْتْ ألا بِشَّوْرْ = ذاك امْن التِّشْيارْ ارْخِ بيه

خالكًـ يَلبْركًـ ذاك الشور = وانَ زادْ ألَّ عالِم بيه

هكذا يصور الشعراء بدقة مرحلة ما بين فصلي الصيف والخريف : امن ابريكَـ آعمش " يرمش من ابعيد، إلى " ابركَـ يشير " ولا يج .. ثم تتقدم الأيام .. وتبدأ تباشيرا لخريف :

يُلْطُفْ بِيَّ يَوْمْ الْنَصْبَحْ = فِوكَيْرْ الِّ بِغْرَامُ شَحْ

وادْبَشْ لِكْيَاطِينْ امْطَرَّحْ = مَزَّالُ فَعْــــــگابْ الْكُلْفَ

تِتْخَالِفْ دَيَّـــــارِتْ لِبْلَحْ = فِي الزَّوالْ اتْگلْ الْخَلْفَ

يِرْگبْ نَوْ اكْبِيرْ امَّـرَّحْ = والْبـــــَرَّاكَ تَحْتُ رِدْفَ

إلِّ إكُولْ انْ النَّوْ اصْلَحْ = والِّ إكْلْ ان النَّوْ اًصْفَ

لُطْفَكْ يَاعظِـــــِيمَ الْجَاهِ = مَغْلاَه أوكِيرْإبَانْ احْفَ

أومَعْوَدْ غَـــــــلاَّيُ مَلاَهِ = تِشْـــتَدْ امْن أخْبَارُ نتْفَ

هذا الشاعر صور الأيام الأخيرة من فصل الصيف، الذي بدأت فلوله تنسحب أمام طلائع فصل الخريف، التي لاحت في الأفق، تختال على وقع الصيف المنسحب : بجفافه وحرارته ليترك المكان لهذا القادم، بغيثه المنهمر ومروجه الخضراء، ورياضه الغناء .

ويمضي الخريف هو الآخر، بعد أن أخذ مساحة من الزمن، ويبدأ الرحيل ليترك المكان لغيره :

أَراهُ ظَرك إِعُود اقرَيْذيفْ       خرًّفْ والْباكَـِ عاد اخْريفْ

والسَّدْرَ لَحْكَـتْ جنبْ السَّيفْ      واعْلِيه لوْرَادْ اسْواريتْ

منْ ظرْكْ اللورَ يَا لَطِيف          اجَفْ المَ ويَبطْ إتِيتْ

فهذا الشاعر يصف الأيام الأخيرة من فصل الخريف في مناطق شهدت ما شهدت في ماض يحتدم بكل شيء، يتمنى الشاعر أن يعود بما فيه من بهجة وسرور .. وأنى له ذلك .

انتهت أيام الخريف، جف الماء وبط اتيت، وبدأت خطوات الزمن باتجاه فصل آخر، يتميز بالدعة والرخاء، يصف أحد الشعراء بواكيره الأولى، إنه فصل الشتاء ..ولكن مرورا بفصل انتقالي تمتزج فيه الحرارة بنوع خفيف من البرد وخاصة في الليل..إنه"ألاوه":

كالحَمْدْ إلِّ مَنْزَلْ لَعْلابْ = دهْرُ فاتْ ءُ كَفَّاتْ اسْحابْ

لخْرِيْفْ ءُ طافِ عادْ اشْهابْ = لحر ءُ حَرْكِتْ ياجورَ

وفْرَقْ باسْ الخَيْلْ الْ لَرْكابْ = الْمِنْهمْ كانِتْ مَعْذورَ

واخْلَطْ بَرْدْ الليْلْ ءُ لِمْظَلْ = وأرْياحْ السَّهْوَ مَهْرُورَ

واخْلَطْ زادْ إِكِلِيْوْ ءُ ظَلْ = الْخَيْمَة هِيَّ وَ امُورَ

فهذا الشاعر صور بدقة المرحلة الفاصلة بين نهاية فصل الخريف وبداية فصل الشتاء "ألاوه": انطفأ شهاب الحر، وهبت ( ياجور ) وهي رياح ضعيفة تحمل معها بردا خفيفا، يتصل ببرد الليل، واختلطت الظلال ببعضها في جو أشبه ما يكون بأحلام اليقظة .

هكذا، يتعامل الشعراء الحسانيون مع الزمن، ويوظفونه للتعبير عن خلجات الوجدان، كما وظفوا المكان لهذا الغرض .

4 – تصوير المشاعر

كما استطاع الشاعر الحساني أن يصور المشاهد المرئية ببراعة، استطاع أيضا أن يصور المشاهد الخفية " المشاعر " بدقة ويحولها من شيء معنوي، ظلالي، غامض، إلى شيء محسوس حتى لكأن المرء يستطيع ملامسته، ذلك من خلال إبراز المشاهد الخفية ودمجها في صورة مكثفة متداخلة الأبعاد، تأخذ كثافتها من التحام المحسوس باللامحسوس، فتظهر الصورة وكأنها طيف مجسم، تراه النفس ببصيرتها الخفية واقفا أمامها ويختفي عن العين المجردة :

بَرْحَتْ لُولَ بَتْ انَّجمْ --- لَيْلِ عَنْدْ اغْرِيدْ الْعَرْجَمْ

تَخْمَامِ بتْ الَّا بَعْظَمْ ---- وَركَـيشْ وُ طَبْ التُّلاه

وعَزْمِ كَنْتْ انْكَـافِ مَنْ فَم --- خَصَّرْ عَزْمِ فَيْدِ لَلَّاهْ

مَانَلَّ مَانِ مَتْخَمَّمْ --- بَرْحتْ لُولَ باعْمِيلْ إِلَاهْ

و عَزْمِ كَنْتْ ايلَّا مَتَّنْتُ--- مَاهُ هِينْ كَانْ املاَهْ

غيْرْ الْحَكَـْتْ الْعَزِيمَةُ ---- لَنَا وَ الْقَضَاءُ لله

مشاعر اختلط حابلها بنابلها حتى غيرت وجهة صاحبها إلى وجهة أخرى لم تكن في حسبانه أصلا، فلم يبق أمامه إلا الاستسلام، والاعتراف بالعجز، والرضى بالقضاء : غير الحكت العزيمة لنا والقضاء لله .

وتصوير المشاهد الخفية، يتنوع بتنوع مواضيعه من حدث إلى حدث .

وقد تأتي لحظة عابرة، مجرد لحظة، لكن هذه اللحظة تغير حياة الشاعر، وتقلب كل شيء فيها رأسا على عقب، ففي الوقت الذي يظن أنه لم يعد يتأثر بشيء من المؤثرات الوجدانية، إذا به فجأة يؤخذ على حين غرة، وترده لحظة مشاكسة إلى عالم الصبابة والهوى، ويستيقظ ما كان نائما من كوامن الوجد والوله فيصور الشاعر الموقف بكل تفاعلاته النفسية :

نَاسِ كَنْتْ اللهوْ أُلمراد                وَاللَّيْعَ وَالحزْمْ ولَوْجَادْ

وْنَاسِ كَنْتْ الظَّحْكْ وْلَغْيَادْ             تَارَكْهُم عَنِّ كَنْتْ الْبَرْ

والتِيفَلْوَاتنْ سِيكَـ أكَـْدَاد                 تَارَكْهُم يالدَّلَّالْ افْزَرْ

واتْرَكْتْ أَزَوَانْ وْلَرْدَادْ                 وَاغْسَلْتْ أَيْدِيَّ مَنْ ذَ فَرْ

وافْغَفْلَ رَيتْ ابْلَا مِيعَادْ                 حَدْ امْخَيْزِ غَشاشْ إِمرْ

فَاجْمَاعَ واِجَوغْ وانْزَادْ                 الْحَزْمْ اعْلَ غَفلَ وَاكْثرْ

واتْفَكَـدْتْ الْمَاضِ تَفْكَادْ                 كَاملْ عَاكَـبْ نَسْيَانُ وُرْ

ـفدتْ اعل ظهر حمل أكرادْ            لَيْعَات أمَّاسَمْه تَكَـشَرْ

فالفُؤَادْ الذُوكُ ينْكادْ                     شَبْعَان امْن اللَّيعَاتْ إيجَرْ

واخْسَرتَخْمَامِ واخْسَرْ زَادْ              عقل واخسرعمْل واخسرْ

ش ثان ياسر مان كاد                  نحصيه وذ ش كاع اكبرْ

عن صوكْ ابعيرْ ؤحزمِ عادْ           كاعدْ ما يرخِ فم اشبرْ

هذه صورة لمشاعر مختلفة، تبدأ بلا مبالاة ونسيان كل شيء، ثم تأتي المفاجأة، لحظة عابرة في مجلس تقلب كل شيء إلى عكسه وتبدأ مرحلة المعاناة والفؤاد الذي ينوء بما يحمله من ليعات الوجد، التي سيطرت على الموقف بلا منازع .

ومن بديع تصوير المشاعر في الشعر الحساني، خلق ما أطلقت عليه لحظات بلا غضون، لحظات ينتفي فيها البعد الزمني، ويختفي نهائيا ليُختزل في لحظة من الشعور بحضور الصورة الخفية التي خلقت إحساسا طاغيا باللازمن على الأقل في بعدي الماضي والمستقبل فاختزلت الزمن كله في لحظة الآن..الحاضر :

نَعْرَفْ حدْ افْشَطْنَ بَعَّدْ         عَنْ حَدْ اُفَوَّتْ مَارَ رَدْ

عَنُّ دَهْرْ اطْوِيلْ اُلَا كَـــدْ         بِيهْ الشَّطْنَ وَالْبَعْد إِجِيهْ

يَتْوَحَّش ذَاكْ الحَد أَشــــدْ         التُّحَاشْ، أُتَنْظنْ أعْلِيـــهْ

يَغِيرْ آنَ مَا نَعرفْ حَــــدْ        يَتْوَحَّشْ حَدْ إِرَاعِ فيـــــهْ

الرؤية المباشرة، التي تقتضي المجالسة والمكالمة كل ذلك لم يُفرغ اللحظة من شحنتها الوجدانية، وكأن الزمن انقطع من الماضي، وتوقف عن المستقبل، ليختصر في لحظة : ( حَدْ يَتْوَحَّشْ حَدْ إِرَاعِ فيـــــهْ ) براعة غريبة في تصوير الفعل اللامحسوس، إلا من خلال الصورة الخفية، التي خلقها الشاعر من الشوق لمن هو ماثل أمامه ينظر إليه بأم عينه.
وهناك نوع آخر من التصوير الخفي، أو اللامحسوس بديع في جماله وعذوبته وقوة تعبيره، بالرغم من خلوه من أي نوع من أنواع التعبير المتعارف عليها بين الناس .. إنه الجمال بعينه، يتجلى في كاف من لبتيت الناقص :

كول لمنـــه فلش          عــــن مـــا ننو

وكول له عن ش          مانعرف شنهو

الذي يسمع هذا الكاف يجد نفسه أمام صورة رائعة لا يراها بالعين المجردة لكنه يحسها بقوة هاجعة بين ثنايا هذا " الشيء ال مانعرف شنهو " .

عظيم هذا النوع من القدرة على التعبير وروعة نحت المعاني من معادنها والوصول إلى ما يطرب النفوس .

فالتصوير في الشعر الحساني فريد في بلاغته وأبعاده الجمالية، في تفاعله مع الحدث بصفته المادية، وتفاعله مع الزمن بصفته المعنوية، وتفاعله مع المشاعر في غموضها المحبب .. فهو يتحدى الآن القاحل وأماكنه الجرز ليضرب في التخوم الافتراضية لأزمانه الخاصة ويخلق آمادا وعوالم من المروج الوجدانية، تطفح روعة ونضارة واخضرارا يملأ النفس بهجة وسرورا .. وأملا حتى في الميؤوس منه سلفا..إنه تصوير الأمانى في أروع تجلياته:
 يللالى منصاب انزلناك *** ياحسي امنيــــــزلن ذاك
 واشربناك وركبن ماك***وعدن كل وقيت انججــوك
 كيفت حيلتن ذيك امعاك***يلحسي اليـــــــــالين ذوك
 وارجعت انت هو هذاك***وارجعن احن هوم هاذوك

    إنه سراب الأمانى..حيث الشعراء يعيشون على وهم افتعلوه بأنفسهم ليكون لهم ملاذا يلجأون إليه كلما فرض عليهم اليأس سلطانه القاتل.

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122