د. ناجى محمد الإمام يكتب: غـــــــــــــادة البراكنة

2016-09-27 17:31:00

في ليلة متوسطية حالمة من ليالي ربيع 1997 في فندق "قصر ليبيا " بحي الظهرة في طرابلس العرب، على بعد خطوات من مينائها الجميل تتراقص أضواءه على وجنة البحر الخالد الذي شهد تاريخ البشرية يكتب على صفحته الهادئة أزلية الزرقة .

.

هنا على هذه البقعة المحملة بالوقائع و المواقع حيث تجثم قلعة السرايا الحمراء المهيبة مقرإيالة الباشا القرمنلي والي الدولة العثمانية شبه المستقل الذي قاتل أسطول الدولة الوليدة آنئذ :الولايات المتحدة الأمريكية و انتصر عليها .

هنا.. على شرفة جناح مطل على أسفار موسوعة حوادث الدهور ،جلست إلى موسوعة أفصح :أستاذي و صديقي العالم الفرد المرحوم الأستاذ الدكتور علي فهمي خشيم الشاعر الفيلسوف المؤرخ إمام اللغات فَلْتَةِ الزمان ومُلْحة المكان، يحدثني تارة في التفسير وأخرى في اللغات وأحيانا في فرائد الأدب ، وقد نثرنا ما جلبتُ معي من رحلتي الأخيرة ،التي سعى لتمويلها ،إلى مركز "أرشيف فرنسا لما وراء البحار" بـ(أيكس آن بروفينس) المشهور بجنوب فرنسا ..

كانت من بين الوثائق صور أعداد من " سلسلة دراسات حول الإسلام" التي كانت تصدرها الدولة الاستعمارية في (مجلة العالَم المُسلم) من مختلف مراكز ومعاهد الدراسات الفرنسية عن هذا العالم الواقع حينها تحت الاحتلال الثأري المسيحي الغربي، وكان يقول : إنه رغم فداحة الثمن فقد تركت لنا هذه الدراسات والبحوث ثروات لا تقدر بثمن عن كافة جوانب تاريخنا ولغاتنا وعاداتنا وتقاليدنا ــ وأكثر من ذلك ـ عن الثروات والتضاريس والنباتات والحيوانات أليفها و بريها والهوام زاحفها والطائر...ومن المآخذ ــ ربما المقصودة ــ إهمال الشأن الثقافي العالِم ، مالم يكن تحليلا أمنيا لموقف فرد أو قبيلة تجاه الاستعمار وارتباطه بخلفيته الفكرية ولاءً أو معارضة،ومن هنا جاء موضوع بحثنا: "الثقافة العربية البيضانية والاستعمار الفرنسي من خلال كتابات بول مارتي" ، وقد خضع العنوان والموضوع لمراجعات كثيرة بفضل الدكتور خشيم طيب الله ثراه..

في كراس من كراريسه الهامة، تناول المستعرب الباحث بول مارتي، كل وحدة جغرافية أو سياسية موريتانية ،بكتابات تبدو، رغم غزارة مادتها، أقرب إلى التقرير الاستخباري منها إلى البحث العلمي الموثق ، ولكنها ،في حالة بلادنا ، تعتبر كنزا ثمينا من المعلومات يؤخذ منه ويرد ، وبه من الحساسية ما يجعل نشره بأمانة، مغامرة لا تستحق المغامرة، وقد اهتممتُ بالموسوم منه"قبائل بيضان إمارة البراكنة" وقد أخذ مني في أطوار التنقيب و الترتيب والبحث و التركيب، فترةً من أخصب سني عمري اقتدارا واجتهادا ، رغم أنها كانت الأصعب سياسيا و ماديا، ففيها تبخرت الآمال وتوقف النضال وتكسرت النصال، إبان هجمة السلام الامريكي والتطبيع مع الصهيوني وتَفَرُّقِ سامرِ قِوى الرفض المحلي وانتشار التشكيك في الثوابت ونهاية التاريخ ببداية "أوسلو" وعنوانه المثير: غزة و أريحا أوَّلا"، التي تمثلتْ في وجود سفير للكيان المسخ على بُعد 500 متر من منزلي ،في عقر عاصمة البرزخ ...
إنها مُحبطات "سامويل هنتنغتون"...

هربتُ من هذ "القيامة لأسعدَ بعالم البحث فغرقتُ فيه، بمساعدة أخلاء لا أنساهم ولا أستطيع أن أكافئهم إلا بإشهار حسن صنيعهم، ومنهم ، قبل الناس أجمعين مولاي العلامة المرحوم محمد سالم عدود ، والدكتور الذي ظللتُ في ضيافته العلمية و العملية إشرافا وإيواءً وإكراما وتلطفاً، حتى استوى العمل ، وخليلي و صفيي الأستاذ الإعلامي الأديب البارز خطري ولد جدو وكان حينها وزيرا للثقافة ، الذي حفزني على إنجازه وكان ،لا زال، الناصح الأمين والرفيق المعين ، وكنتُ أشغل معه موقع مستشار..
قال لي "الدكتور على": ما هو أطرف ما لقيت في الوثائق خلال رحلتك هذه؟ قلتُ :إن آفة الطرفة والنكتة الشرحُ ..ولكنني مضطر لتصلك بأقصى نكهتها، أن أفسرها لشدة مَحَلِّيَّتها، وشرحتُ له ما يوصل القصة ، وهي أن "مارتي" في تناوله لقبائل البراكنة ، وفقاً للتسلسل جاء على ذكر قبيلة"سُباكْ" وهي من قبائل زوايا البراكنة المحترمة، ولها ، فضلا عن ذلك، شهرة بأغنية عريقة(شور) متوارثة من عهود غابرة، تشيد بظاهرة ينفردون بها هي :جمال الصبايا ،ولتأكيد هذا المتواتر عليه أورد أبياتا شعرية فصيحة في غاية جودة السبك وطرافة بل "حداثة" المعاني، وترجمها إلى اللغة الفرنسية بشعرية لافتة، يتغزل قائلها بجمال إحدى غواني هذه القبيلة الكريمة،كما كان العرب يفعلون ، ولولا هذا المستعرب الباحث لما وصلتنا هذه الفرائد التي سقطت من الذاكرة الجمعية ، التي تؤكد صدق خاصية الملاحة التي حفظتها الأغنية الشعبية ، والتي خص بها الله هذه العشيرة الكريمة...يقول الشاعر المبدع المجهول :

لله غانية من حي سُـ(و)بَــــاكي  -- تمشي الهُوَّيْنا على أحقاف ألواكِ*

خمصانة كمهاة الرمل خِرْيِعَة --  مُستاكة أبَدًا من غير مِسواكِ*

يا درةً فوق نحر الدهر حَيَّاكِ -- مــني نسيمٌ لهُ رَيٌ كَــــرَيَّاكِ*

ماءُ الحياة وماءُ الموت قد جمعا --  للنَّاظرينَ ـ لَعمْري ـ في مُحَيَّاكِ*

قال الأستاذ : حتى في هذه ما زلتم أرشيف العادات و الخصائص العربية أكثر ،حتى من أعرق سكان الجزيرة و ما بين النهرين، قلت : كيف؟
قال: أليس الوأواء الدمشقي (إن صحت النسبة) من حدد وأفرد كل عشيرة بخاصية جمالية:

**حجازية العينين نجدية الحشى**

عراقيّة الاَّطراف رومّية الكَفلْ**

**تِهاميّة الأبدانِ عبسيَّة اللَّمى

**خزاعيةُ الأَسنانِ دُرية القُبَلْ**
________________________________
للمتابعة نرجو ممن لديه فكرة عن موضع "ألواك"
أن يفيدنا به،فرغم الجهد لم أعثر له على موقع.

صورة ‏ناجي محمد الإمام‏.
صورة ‏ناجي محمد الإمام‏.
 
 
 
 
 
المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122