دروس في الانقلابات العسكرية (الموذج المالى) ح 3

2016-08-05 00:11:00


الدرس الثالث أقرب إلينا من سابقيه. إنه من جمهورية مالي، الجارة العزيزة.

.


دولة مالي مثلنا تقع جنوب الصحراء الكبرى، ولكننا أحسن منها. وهي أيضا مثلنا دولة شاسعة؛ الجزء الأعظم من خارطتها صحراء بلقع، ولكننا أحسن منها. وهي مثلنا دولة فقيرة متخلفة، ولكننا أحسن منها.
وأخيرا فجمهورية مالي مثلنا دولة طحنتها الانقلابات العسكرية وخربها فساد السلطة. ولكننا أحسن منها!!
باختصار، ومهما كانت الجارة الشقيقة مالي، فنحن مثلها وأحسن منها في نفس الوقت! بغض النظر عن معنى كلمة "أحسن": هل هي على بابها كما يقول النحويون، أم هي على صيغتها التفضيلية بمعنى أكثر أو أشد، كما يقول اللغويون!!

المهم أننا مهما تنافسنا مع جمهورية مالي وغلبناها في كل شيء، فإننا لا يمكن أن ننكر أنها سبقتنا بالانقلابات العسكرية، بل إن لها "فضل" السبق على أكثر الدول الإفريقية التي تعرضت لهذا البلاء قبلنا وبعدنا!! تستحق مالي هنا أن نسميها "العميدة".

ففي سنة 1968 انقلب الجنرال موسى تراوري بدعم مباشر من فرنسا على أول رئيس للدولة المالية المستقلة: موديبو كيتا (1915-1977) وهو مدني اشتراكي مثقف.
ولكن كما كانت جمهورية مالي من السابقين في الانقلابات العسكرية، فقد كانت أيضا السباقة إلى الثورات الشعبية ضد الاستبداد. لقد كان ربيع الحرية فيها قبل أي ربيع آخر في القارة الإفريقية.

كان ذلك حين تزايدت الاحتجاجات وعمت المظاهرات أنحاء البلد، وتوحدت في مسيرات تاريخية سلمية في باماكو تطالب بالحرية والديمقراطية، دفع فيها الشعب المالي 150 نفسا و1000 من الإصابات، سقطوا في ميادين المظاهرات على مدى ثلاثة أيام متتالية من شهر مارس 1991م. حينها قام الجيش المالي بتنحية الديكتاتور في انقلاب عسكري نادر من حيث سعيه إلى إنهاء حكم الاستبداد وإحلال حكم ديمقراطي مدني مكانه والعودة بشرف إلى الثكنات.
كان ذلك في بداية ثورات الحرية العالمية التي عصفت بطغاة كثر في الشرق والغرب بعد سقوط جدار برلين سنة 1989م.

وهكذا جرت أول انتخابات ديمقراطية حرة في مالي سنة 1992 فاز فيها رئيس مدني مثقف هو ألفا عمر كوناري لفترتين متواليتين، خرج بعدهما من السلطة خروجا سلميا سليما نادرا أيضا في هذا الإقليم.
يومها لم يكن الموريتانيون قد اخترعوا "الكتيبة البرلمانية" التي تعد من أحدث وسائل الانقلابات العسكرية على خيارات الشعوب. وذلك ما ساعد هذا الرئيس المدني المنتخب على إكمال فترتيه! ليخلفه السيد أمدو توماني توري، بعدما ترك الجيش وانقضت "عدته" منه، وذلك سنة 2002. ثم أعيد انتخابه ليفوز، كما يفوز كل رؤسائنا، في الشوط الأول سنة 2007. إلا أن السيد ATT (هكذا يسمون توري) أعلن "رسميا" وبوضوح أنه لن يعدل الدستور ولن يترشح في أي حال لفترة رئاسية ثالثة، وهي صراحة ـ في مذهبنا ـ ينقصها الغموض والمراوغة وربما "الحكمة"!!
كان ATT على وشك إنهاء مأموريته الأخيرة وتسليم الأمر لمنتخَب جديد والرحيل إلى قريته الوادعة... حين طغت شهوة الانقلابات في الجيش المالي، الذي يواجه حربا طاحنة في الشمال (ونعلم أن بعض العسكريين حين تزعجهم الحرب ينشدون النصر في الانقلابات العسكرية!) فاقتحم جنود وضباط بقيادة نقيب مغمور يدعى "أمدو سانوغو" القصرَ الرئاسي واحتلوا الإذاعة والتلفزيون الرسميين وأذاعوا البيان الأول بمضمونه المعروف! كان ذلك في 21/3/2012م. وقد كان أسوأ انقلاب وأقبحه شكلا ومضمونا، وأخطره على كيان الجمهورية المالية نفسه.
النقيب سانوغو غضب من عقوبات الاتحاد الإفريقي، واحتج بتجاوز الأخير عن الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب في موريتانيا (2008) قائلا إن ذلك من باب الكيل بمكيالين!


ولكن ما حير المراقبين في "نواكشوط" أن صانوغو، نسي أو تناسى أن الانقلابات العسكرية الموريتانية أحسن من نظيراتها في الدول المجاورة!
ورغم إشارة هذا الانقلابي المسكين، إلى الاستئناس بانقلابنا الأخير (جعله الله الأخير) فإنه لم يستفد من "تقنياتنا المتقدمة"؛ فليست لديه كتيبة برلمانية جمَّاعة للأتباع المتملقين، ولا ابن عم ثري نافذ في الداخل والخارج، ولا كان في زمن المرحوم القذافي!!

والأخطر من ذلك أنه لا يواجه شعبا مثل الشعب الموريتاني "الصبور"، بل يواجه شعبا أسقط الجنرال تراوري، وأجبر العسكر على الخروج من السلطة بعده.
وبالإضافة إلى يقظة الشعب المالي واحتجاجاته الرافضة بقوة لذلك الانقلاب الأحمق ضد رئيس منتخب على وشك الخروج من السلطة بشكل ديمقراطي طبيعي، واجه صانوغو البائس انهيار جيش مالي أمام رجال الطوارق في الشمال فخسر ثلثي أرض دولته التي يدعي أنه جاء للدفاع عن وحدتها المهددة!
وسريعا أصبحت العاصمة المالية على طريق زحف الطوارق، ودخلت القاعدة وأخواتها على الخط شمالا؛ فتحركت فرنسا لتنقذ إحدى مستعمراتها الأبدية وتحكم السيطرة على المنطقة كلها. بينما فشل انقلاب النقيب صانوغو وسقط هو نفسه في النهاية في السجن أمام القضاء، لتتكشف لاحقا أعماله القذرة، في مقابر جماعية لرفقاء له في السلاح طالبوه باحترام إرادة شعبه!

 

من صفحة الأستاذ الباحث : محمد محفوظ ولد أحمد على الفيس بوك

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122