رمضان في بيروت(2)../ الأستاذ: محمد محفوظ ولد أحمد

2016-06-28 10:44:00

اتخذت من أحد الفنادق المتوسطة على شارع الحمراء العريق في بيروت الغربية سكنا دائما؛ ولكني كنت مرتبطا ببيروت الشرقية من جهة وبالضاحية الجنوبية من جهة أخرى. كانت لي رحلة شبه يومية من الحمراء إلى البوشرية والدكوانة، شرقا، مرورا بالأوزاعية جنوبا.

.


ومع ذلك فالنقل في بيروت من أصعب الأمور، إذ يعتمد على سيارات الأجرة الباهظة التعرفة أو "الميني باص" محدود الاتجاه؛ في حين لا توجد قطارات ولا باصات كبيرة تغطي كافة مناطق المدينة كما تغطي الطرق بين المدن. بل إن النقل بين المدن أيسر حالا وأرخص أجرة!.

قبل استقبال شهر الصوم، بادرت بتعقب أثر امرئ القيس بن حجر، فتوجهت إلى سهل البقاع لزيارة القرية التي أنكرته؛ إنها "بعلبك"، المدينة السياحية التي تحتضن أروع الآثار العمرانية وأقدمها. وتجولت بين تلك الديار والمسارح الرومانية المذهلة. قضيت يوما بين أحياء هذه المدينة المزدهرة ومزارعها المثمرة.
المدينة تزهو أيضا بعمارتها ذات الطابع العثماني التاريخي، وتضم مساجد كثيرة. ومن أشهر معالمها "الدينية" الحديثة: "مزار السيدة خولة"، وهو ضريح يزعم الشيعة أنه للسيدة خولة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم. وقد أعادت إيران بناءه وزخرفته على طرازها الشيعي .أما أهم الآثار السياحية في "مدينة الشمس" فهي بدون جدال أطلال المعابد الرومانية الفخمة، وهي روعة مدهشة، انتصرت على عاديات الزمن ومعاول الإنسان، حيث نقل بعضها واستخدم للبناء في مناطق عديدة من الشام على مر العصور. ولكن ظلت هذه الآثار الرومانية والبيزنطية قائمة. ومن أبهرها آثار قلعة بعلبك، وأطلال معبد "جوبتير" الروماني، وبقاياه المعروفة اليوم بـ"ـالأعمدة الستة" التي ما تزال شاخصة لا تتزحزح!.


لم تتغير هذه الآثار ولم تضم بعد الفتح الإسلامي للمدينة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهما سنة 13 للهجرة. بل ظلت عبر العصور الإسلامية، الراشدة والزاهرة، كما هي محترمة: قصصا إنسانيا حيا وعِبرة للمؤمنين، داحضة بذلك حِجج السطحيين المنغلق أفقُهم والمتحجرة أفئدتهم المتنطعين في عقائدهم الباحثة اليوم عن أصنام تعبد وأوثان تكسر ودماء تهدر...!
والحقيقة أن هذه العَمد الصامدة وغيرها من أبنية متداعية وبقايا حجارة منحوتة محلاة بالنقوش المجسمة والتماثيل البديعة، إنما تذكر اليوم أولي الألباب، وهم يتخيلون عصور وظروف نحتها، بقول الله تعالى ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)). إذ كيف ينحت وينقل ويشيد إنسان تلك العصور ( 64 ق.م) مثل هذه الأعمدة الصخرية الضخمة التي يبلغ طول بعضها 22 مترا ووزنه 1000 طن، دون رافعات كهربائية أو هيدروليكية؟!
**
جاء رمضان، وأعلنته رسميا دار الإفتاء اللبنانية التي تتبعها طائفة المسلمين السنة (يقدرون بأكثر من 30% من مجموع السكان البالغ الآن حوالي 4.5 مليون نسمة). أما طائفة الشيعة فيقدرون ب29% وأغلبهم يتبع لرئاسة "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى"، ومنهم من يتأسى بالمرجعية الشيعية في العراق (السيستاني) ومنهم من يتبع المرشد الإيراني الأعلى مباشرة.
أما بقية السكان فمن الطوائف المسيحية المختلفة، وأقواها وأكثرها نفوذا المارونيون، ثم طائفة الدروز الصغيرة.
والحديث عن "الطوائف" في لبنان كثير الشجون، له انعكاسات محلية وإقليمية، وقصص تاريخية. فمنذ احتلت فرنسا بلاد الشام عملت جهدها للمِّ شتات الطوائف النصرانية وبوأتها مراكز السلطة والنفوذ، لكن دون أن تفلح في توحيدها الذي ابتغته بقدر ابتغائها تمزيق صف المسلمين الذين كانت تتهمهم بالولاء لدولة الخلافة. وحسب إحصاء سنة 1932م فقد استطاعت فرنسا أن ترفع نسبة السكان المسيحيين في لبنان إلى ما فوق النصف (حوالي 51.2%) مما رتبت عليه منحهم رئاسة الدولة اللبنانية التي احتفظوا بها حتى بعدما انخفض عددهم إلى حوالي 40% من مجموع السكان.
كانت المساجد وبعض محطات الإذاعة والتلفزيون في بيروت تصدح بأذان المغرب عند غروب الشمس، ثم بعد ذلك بحوالي 45 دقيقة تعلن الضاحية الجنوبية وبعض المحطات الشيعية أذان المغرب مؤذنة بوقت الإفطار الذي ينتظر عند الشيعة مغيب الشفق بعد مغيب الشمس!
//مساجد//
بيروت بطبيعة الحال تنتشر فيها الكنائس والمساجد. لكن المساجد هي الأقدم والأكثر. ومن المساجد التاريخية المشهورة في بيروت "الجامع العمري" الذي يرجع تأسيسه إلى بداية القرن السادس الهجري. وعرف أيضا باسم "جامع فتوح الإسلام". وقد حوله "الافرنجة" (الصليبيون) عند احتلالهم بيروت إلى كاتدرائية، بقيت في حوزتهم حتى عام 1291م فاستعاده المسلمون ثانية في عهد الأمير المملوكي سنجر بن عبد الله الجاولي، وشيدوه مسجدا شامخا إلى اليوم.
ولعل أقدم مساجد بيروت القائمة اليوم هو جامع الأوزاعي، إذ يعتقد أن تاريخه يعود للقرن الثاني الهجري. وقد سمي باسم الإمام الفقيه عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (88-157هـ) وبه ضريحه و"مقامه"، وهو يقع في مدخل بيروت الجنوبي قرب الضاحية الجنوبية.
ولا ريب أن أكبر وأشهر مساجد لبنان اليوم هو "جامع محمد الأمين" (نسبة إلى النبي الأمين صلى الله عليه وسلم) الواقع في ساحة الشهداء بوسط بيروت الذي يرجع تاريخ تأسيسه إلى عام 1853م. ولكن ابتداء من سنة 2002م أعيد بناؤه وتوسعته وتجهيزه على أحدث طراز وأفخم عمارة وأجمل زخرفة من طرف رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. حتى صار البعض يسميه "جامع الحريري" وقد أقيم للحريري نفسه ضريح قرب المسجد بعد اغتياله المدوي سنة 2005م.
وهناك مساجد شعبية كثيرة، بعضها في عمارات وقفية أو تابعة لجمعيات إسلامية خيرية.
والجامع بين هذه المساجد "الشعبية" نظافتها ونظامها البديع، حيث يكون المصلَّى في الطابق العلوي. وفي الطابق السفلي المرافق والمواضئ و"المناعل"، وهذه الأخيرة هي شبكة صناديق صغيرة مرقمة، مثل صناديق البريد القديمة، وفي كل واحد منها مفتاح يحمل رقمه أيضا. يودع المصلي نعليه، وما قد يحمل من متاع حفيف، في أي صندوق شاغر ويغلقه ويأخذ المفتاح ويصعد إلى الصلاة، ثم يعود ليأخذ "وديعته" ويترك المفتاح في مزلاجه...
هذا في الصلوات المكتوبة، أما في صلاة التراويح فإنك ستفاجأ في هذه المساجد بتلاوة جميلة (برواية حفص) منسابة لا تكاد تلحظ فيها خطأ ولا "آمرژي"!.
لقد أدهشتني هذه الدقة في الحفظ والأداء، قبل أن اكتشف السر: إنه "المحراب الإلكتروني"!
المحراب الإلكتروني هو جهاز كبير بشاشة ضخمة كالحاسوب، تَعرض القرآن الكريم برسم وصورة صفحات المصحف مكبرة، مرتبطة عبر سلك ـ يشبه سلك الميكروفون ـ بسوار في معصم الإمام كساعة اليد. وبما أن سنة "القبض" هي المتبعة فإن زر تحريك صفحات الشاشة يقع مباشرة تحت سبابة اليد القابضة بحيث يتحكم الإمام في متابعة القراءة أو التوقف بلمسة لطيفة.

هذا الجهاز المنتشر في لبنان وتركيا وبعض بلاد آسيا المسلمة، تتولى تسويقه شركة سعودية في جدة. لكن من الغريب أن لجنة الإفتاء الرسمية السعودية أفتت بمنعه "شرعا" لأسباب في غاية الغرابة والتناقض، من أوجهها الخوف من "انقطاع التيار الكهربائي! وقالت: "لا يجوز أن يُحتج لإجازة هذا المحراب بجواز القراءة من المصحف لما بينهما من الفروق" (التقنية)!!
//جنة الكتب//
لا أحتاج إلى الحديث عن الكتاب في لبنان، وفي بيروت بالذات، وفي شارع الحمراء ومنطقتها خصوصا.
دُور النشر ومؤسسات الطباعة العريقة هنا تغذي العالم العربي والإسلامي بأرقى تقنيات الطباعة والتجليد، وهنا كانت تطبع معظم الكتب والمجلات والدوريات العربية الملونة، والترجمات العالمية الراقية.

لا مفهوم للكتاب هنا عن الشريط (الذي أصبح قرصا) في عالم الأدب والنقد والفن والنغم التي ظاهرت الكتاب هنا في ازدهار ثقافي عربي ألوَت به صراعات الحروب المجنونة التي استغلت أجواء الحرية والتسامح في هذا البلد لتغذيتها!.

بصراحة لا يكفي الزمن هنا لحصر المكتبات، فضلا عن تصفح عناوين رفوفها العامرة بكل لون؛ أنت هنا بالخيار أمام التوجه إلى المكتبات العامة، حيث النفائس القديمة، أو مكتبات دور النشر الشهيرة حيث آخر الإصدارات، أو متاجر الكتب حيث كل شيء...
انتبه! أسعار الكتب مع ذلك ليست رخيصة كما تتوقع. فالحقيقة أن تكاليف الحياة هنا ـ في بيروت ـ غالية، والأسعار من أعلاها عالميا. والعملة عملتان: الليرة اللبنانية والدولار الأمريكي على حد سواء في التداول (رغم أن دولارا واحدا يعادل 1500 ليرة) لكنهما يشكلان معا عملة واحدة! فبائع الفواكه في الشارع والمطعم الصغير... يدونان على كل صنف السعر بالعملتين جنبا إلى جنب!.
//دخان وضجيج//

لطالما استغربتُ العلاقة بين الكتب والسجائر، من خلال ملاحظة استخدام المكتبات لصناديق (كرطون) السجائر أوعيةً وطرودا للكتب القادمة من عاصمة النشر والطباعة العربية: بيروت. لكن العيش هناك علمني أن هذا طبيعي، بسبب حجم استهلاك السجائر في لبنان!
فمهما تفرق اللبنانيون واختلفوا فإن لهم قاسما مشتركا: هو التدخين!! هنا الرجل والمرأة والعجوز والشيخ الكبير والطفل الصغير، والناسك والراهب... كل يدخن. ولن ترى مطلقا في أي مكان من لبنان تلك اللافتات التي باتت تظهر في أكثر الأماكن في العالم والتي تقول أو ترسم: "ممنوع التدخين"!
مع هذا فاللبنانيون يحبون الحياة ويتعلقون بها، ربما بسبب كثرة الحروب التي يتعرضون لها، ولذلك يحرصون على توفر وسائل العيش الراقية، واعتماد العادات والأطعمة الصحية.
أما الأمر الآخر الذي يحبه اللبنانيون ولا يستغنون عنه فهو "ضوضاء" موتورات الدراجات النارية، وحتى السيارات... فكل لبناني ـ تقريبا ـ يركب سيارة فاخرة أو تافهة لا بد أن يركن في زاوية من بيته دراجة نارية فاخرة أو عادية، يمتطيها في العطل والمناسبات، ويطلق العنان لدوار "متورها" حتى يصم الآذان!!
[للحديث بقية إن شاء الله]

 

 

من صفحة لأستاذ: محمد محفوظ ولد أحمد على الفيس بوك

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122