محاضرة: التواصل المغاربي المشرقي من خلال رحلة الحج الشنقيطية

2016-05-05 03:30:00

نظم المركز الثقافي المغربي بانواكشوط أمس ندوة ثقافية تضمنت محاضرة حول  "التواصل المغاربي المشرقي من خلال رحلة الحج الشنقيطية" ألقاها  الدكتور محمدو ولد امين  أستاذ باحث بجامعة نواكشوط، وذلك بحضور كوكبة كبيرة من رجال الثقافة والأدب

.

وقد استهدفت  المحاضرة تقديم جملة من الملاحظات والانطباعات حول رحلة الحج الشنقيطية ومنزلتها ضمن التواصل بين مغرب البلاد العربية ومشرقها بصفتها نموذجا لهذا التواصل.

وهذا نص المحاضرة:

استهدفت هذه المحاضرة تقديم جملة من الملاحظات والانطباعات حول رحلة الحج الشنقيطية ومنزلتها ضمن التواصل بين مغرب البلاد العربية ومشرقها بصفتها نموذجا لهذا التواصل.

وقسم المحاضر عرضه إلى محورين اثنين أولهما مدخل عام يتضمن تحديدات إجرائية خصصها للتأطير لمداخلته زمانا ومكانا وموضوعا. أما ثانيهما فاستعرض فيه مظاهر من التواصل المشرقي المغاربي مركزا على أبعاده وتجلياته المعرفية والاجتماعية والسياسية.

بخصوص التحديدات الإجرائية اهتم أولها بتحديد الفترة الزمنية للموضوع وتمتد من النصف الثاني من القرن 18 لتشمل القرنين 19 و 20 وهي فترة، قد تبدو طويلة نسبيا، غير أنها بامتدادها ذاك تسمح برصد التطور الحاصل في عملية التواصل هذه.

أما التحديد الثاني فتعلق بصفة "الشنقيطية" التي وصفت بها الرحلة في عنوان المحاضرة، وهي صفة مشتقة من تسمية شنقيط المدينة الواقعة في الجزء الشمالي من البلاد الموريتانية الحالية، والتي أطلق اسمها في مرحلة معينة على هذه البلاد من باب تسمية الشيء باسم بعضه.

وربما يكون لانطلاق ركب الحجيج الشنقيطي من هذه المدينة متجها إلى الديار المقدسة، صلة بهذه التسمية التي يعتقد أنها ظهرت أول الأمر في المشرق، وهي بالتالي مظهر للتواصل الشنقيطي المشرقي.

وعلى ما يعتقد فإن لشيوع هذه التسمية علاقة بالأدوار العلمية والثقافية والدينية والتجارية التي اضطلعت بها هذه المدينة فترة من الزمن مما بوأها مكانة متميزة في تاريخ البلاد الثقافي والديني على وجه الخصوص.

ويتعلق التحديد الثالث بالرحلة نفسها، فهي من حيث الاشتقاق اللغوي مرتبطة بالانتقال والقصد (وبالتالي التواصل). يعرف صاحب لسان العرب الرحلة قائلا: "الرحلة: الارتحال". و"الترحل والارتحال: الانتقال وهو الرحلة والرحلة". و"الرحلة بالضم، الوجه الذي تأخذه وتريده تقول أنتم رحلتي أي الذين أرتحل إليهم."

أما الرحلة اصطلاحا فتتداخل وتتشعب دلالاتها:

-      فهي الانتقال من بلاد إلى أخرى لدواع تختلف باختلاف الإنسان والمكان والزمان.

-    وهي "كتابة يصف فيها الرحالة ما رأى".

-     وهي نمط أدبي يتأسس على علاقة زمكانية ويعتمد تقديم المشاهدات وذكر الخواطر أو بعبارة أخرى "صياغة أدبية يعبر الأديب من خلالها عما أحس به وهو يجوب الآفاق مكتشفا ومتعلما مزاوجا بين الشعر والنثر" حسب تعبير الحسن الشاهدي.

وليس غريبا أن تشكل الرحلة جزءا أساسيا من مكونات ثقافة هذا القطر الذي ظل جل سكانه إلى عهد قريب مرتحلين (بمعنى ما) داخل مجالهم الصحراوي. فمن خلال الرحلة استمر ربط سكان هذا القطر بجذورهم العربية والإسلامية، وعبرها توفرت لهم المتون والأسانيد في ركن قصي من الصحراء.

وإذا كان حج الشناقطة قد اقتصر بداية الأمر على محاولات فردية معزولة وغير مستمرة، فإن ركب الحجيج الشنقيطي لم يلبث أن انتظم منطلقا "من شنجيط إلى مكة كل عام،" مشكلا بذلك فضاء رحبا لتعاط حضاري اتخذ مظاهر عديدة.

وفي المحور الثاني قدم المحاضر نماذج من مظاهر التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب العربيين كما جسدته رحلة الحج الشنقيطية مذكرا بأن جذور هذا التعاطي الروحية والمعرفية ضاربة في القدم، ففي المجال الفقهي ظل الشناقطة مالكيين متشبثين بمذهب إمام دار الهجرة. كما أن إمامهم في القراءات هو نافع قارئ المدينة المنورة. وقد اعتمدت مرجعيتهم الأدبية -من حيث الأساس- على أدباء وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام بالجزيرة العربية. أما في النحو والصرف فإنهم يركنون إلى التراث التنظيري لمدرستي البصرة والكوفة.

ثم انتقى عينات متنوعة تجسد هذا التواصل أخذا وعطاء في مجالات الدراسة والتدريس والتآليف والمقررات الدراسية والأسانيد والإجازات..إلخ.

واستعرض الأدوار التي اضطلع بها الشناقطة في المشرق العربي في المجالات المعرفية والاجتماعية والسياسية مستنتجا أنها أدت في بعض الأحيان إلى انتفاء الحدود والمواضعات حيث يغدو "الزائر" الشنقيطي المقيم مواطنا من الدرجة الأولى، يتولى تسيير أمور الناس ويسهم في رسم العلاقات العامة للبلدان، فهل ينال المواطن في بلده أكثر من هذه الحظوة؟

إن إسهام الحجاج الشناقطة في نقل ونشر المعارف العلمية والخبرات الحياتية من وإلى المناطق التي زاروها أو أقاموا بها في المشرق قد جعل مهمتهم تتجاوز هدفها في استجلاب الكتب وتأصيل الأنساب والحصول على الإجازات لتجسد رسالة حضارية بالمعنى الإسلامي إفشاء للعلم وتوطيدا لأواصر القربي.

وإذا كان الحجاج الشناقطة –بادئ أمرهم- "مغامرين" جوالين تحدوا المشقات والصعاب والمخاطر مغتربين عن ذويهم مبتعدين عن مرابعهم مفضلين الانتقال من مكان إلى آخر إشباعا لظمئ معرفي أو إرضاء لمنزع ديني مهما كلفهم الثمن، فإنهم بذلك –أقاموا أم رجعوا- قد أسهموا في بناء تلاقح حضاري باختزال المسافات وتكريس التقارب عبر دار الإسلام من خلال نقل حقائق البلدان والسكان والتأثر والتأثير فيها انطلاقا مما يسميه عبد القادر زمامة "وعي صاحب الرحلة بظروف الزمان والمكان".

ولعل مما ساعد هؤلاء الحجاج على دفع عملية التواصل والتثاقف أن الانتقال كان مباحا بين الأقاليم الإسلامية تسابقا إلى تحصيل المعارف ومدا لجسور العطاء دونما حاجة إلى جوازات سفر ولا تأشيرات دخول أو خروج...إلخ

غير أن البعد المعرفي لرحلة الحج اليوم قد أخذ يضمر لصالح الأبعاد الدينية والتجارية والسياحية...إلخ، فأصبح الحاج يود أن يستورد الأحذية بدل الإجازات وزجاجات العطر الباريسي مكان الكتب النادرة؛ فهل تضطلع الكفاءات الشنقيطية المهاجرة الآن إلى منطقة الخليج بالأدوار التي كان الحجاج يقومون بها خلال القرون الماضية؟

وإذا كانت الحدود الإقليمية اليوم لا تقبل العبور الحر للبضائع والأموال وغيرها من مفردات تسهم في بناء اللحمة وتقوية أواصر القربى، أفلا تكون الأفكار وبالتالي البحوث العلمية –بما يميزها من قدرة على اختراق الحواجز وتجاوز الحدود-عاملا يوحد الأمة ويعيد إلى الناس لحمتهم المفقودة في زمن القرية الكونية الواحدة؟

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122