دفاعا عن النشيد الوطني

2016-04-16 07:58:00

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن تغيير العلم و النشيد الوطنيين خاصة في بعض النوادي السياسية و على ألسنة بعض الأحزاب السياسية ، ولأن الموضوع يتسم بالغرابة في طرحه خاصة في هذه الفترة ، فقد أردت أن أثيره دفاعا عن هذه الرموز التي تعد الجسارة على تغييرها أو الدعوة إلى ذلك طعنا في هويتنا الوطنية و الإسلامية التي نعتز جميعا بها.

.

فليس النشيد الوطني في العالم كله إلا كلمات يتم اختيارها لتكون رمزا أبروتوكوليا يعزف في المناسبات الكبرى ، وفي الغالب يتم فيه تمجيد الوطن أوالحاكم أو النضالات أو تمجد تاريخ تلك البلاد.

ومن أقدم الأناشيد في العالم النشيد الوطني الهولندي الذي كتب سنة 1568م خلال الثورة الهولندية وهو مجرد كلمات تمجد الثورة الهولندية كما تمجد الملكة إذ ذاك وتدعو بحفظها، و في بعض البلدان فإن النشيد الوطني يعزف كل صباح لطلاب المدرسة كعادة لغرس حب الوطن وتمجيده.

وإذا ما نظرنا في محتويات الأناشيد الوطنية للدول المجاورة لموريتانيا على سبيل المثال فإنها تصب كلها في تمجيد الثورة أو الوطن أو الحاكم ، فمثلا فإن النشيد في المملكة المغربية هو : (الله .. الملك .. الوطن.. منبت الأحرار.. مشرق الأنوار..دمت منتدى وحمى.. عشت للأوطان .. ملء كل حنان .. ذكرى كل لسان..إخوتي هيا .. للعلا سعيا .. نشهد الدنيا أن هنا نحيا.. بشعار الله .. الوطن .. الملك)

وفي السنغال إنما هو كلمات من الشعر الفرنسي الرمزي الذي يستنجد ويستنطق الطبيعة ويدعو السنغاليين إلى الارتباط بها وإلى النهوض من أجل بناء السنغال و إفريقيا.

وفي الجزائر إنما هو تمجيد جميل للثورة الجزائرية وهو طويل وأهم مقاطعه:

(قسما بالنازلات الماحقات .. والدماء الزاكيات الطاهرات .. والبنود الخافقات اللامعات.. في الجبال الشامخات الشاهقات .. نحن ثرنا فحياة أو مماة..)

أما في مالي فهو نص من الشعر الفرنسي في خمسة مقاطع يمجد مالي وإفريقيا ويدعو إلى وحدتهما كما يدعو لبناء الوطن في المدن و الأرياف ..إلخ

أما في تونس فهو في خمسة مقاطع عن تمجيد الوطن ومنه ( حماة الحمى يا حماة الحمى .. هلموا هلموا لمجد الوطن ..).

وأما في موريتانيا   فقد انتبه بناة الوطن الأوائل الذين أسسوا الدولة وحاولوا أن تستقيم أركانها ويقوى بنيانها أن تكون كل رموز الدولة تحمل شعار الإسلام الذي هو عنوان الجمهورية ، وتجلى ذلك في دلالة العلم وما يرمز إليه وفي دلالة النشيد الوطني وحكمة اختياره باعتبار الدين هو الجامع الحقيقي و الموحد لكل مكونات هذه الدولة ، وهكذا نجدهم قد اختاروا النشيد بعناية فائقة وبتوفيق من الله تبارك وتعالى، حيث كان موضوع النشيد هو ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة ونصرة الحق ونكران الباطل والتمسك بالكتاب والسنة واجتناب البدع والمحدثات وذلك في ثوب شعري سلس جذاب، حلو العبارات ، رائع الصيغ ، حسن السبك، عميق الرؤية، قريب العبارة، متجدد الطرح، لا يرتبط بزمن أو حكم معين، إنه نصرة لله ولشرعه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، إنه " كن للإله ناصرا.." وهو لأحد أهم أعلام هذه البلاد علميا وسياسيا وروحيا إنه العلامة والمجدد الشيخ سيديا باب رحمه الله تعالى.

وكلمات النشيد هي:

كن للإله نــــــــــــاصرا**** وأنكر المناكـــــــــرا
وكن مع الحق الـــــذي**** يرضاه منك دائـــــرا
ولا تعدّ نافعــــــــــــــا **** سواءه أو ضائــــــرا
واسلك سبيل المصطفى**** ومت عليه سائـــــــرا
فما كفى أولنـــــــــــــا **** أليس يكفي الآخـــــرا؟
وكن لقوم أحدثــــــــوا **** في أمره مهاجـــــــرا
قد موهوا بشبــــــــــه **** واعتذروا معــــــاذرا
وزعموا مزاعمـــــــــا **** وسودوا دفاتـــــــــرا
واحتنكوا أهل الفـــــلا **** واحتنكوا الحواضــرا
وأورثت أكابــــــــــــر **** بدعتها أصاغــــــــرا

فاحكم بما قد اظـــهروا **** فما تلي السرائـــــــرا
وإن دعا مجـــــــــادل **** في أمرهم إلى مــــرا
فلا تمار فيهـــــــــــــم **** إلا مراء ظــــــاهــــرا

وهذه القطعة تنتمي عروضيا إلى مجزوء الرجز وقد جاءت في 52 تفعيلة تتوزع داخل مساحة النص إلى أربعة تفعيلات في البيت الواحد تفصل بين كل اثنتين منها وقفة عروضية دلالية ، والنص خلو من التدوير الذي يقطع التفعيلة بين الشطرين ومع أن الرجز من البحور المتمددة فإن التفعيلات وردت في أغلبها تامة، وأما القافية فهي مطلقة بالألف الذي هو الوصل، والدخيل بالقطعة جاء بحركة الكسر، وباعتبار عدد الحركات بين آخر ساكن والذي قبله إن القافية في القطعة متداركة، ولما كانت القافية هي العنصر الأساس في موسيقى الشعر فإن إطلاقها أو تقييدها شبيه بشد الأوتار أو إرخائها في آلات العزف الموسيقي، إذ يعبر عن مصدر الشعور، وعن حدته ودرجة انسيابه...

ولاشك أن الشاعر وهو يرسل هذه الأبيات يتدفق شعوره منهملا فيعجز عن تقييده فيخرج بهذه القوة رسالة إلى كل المسلمين حاضرهم ومستقبلهم لنصرة دستور الإسلام الذي رسمته هذه الأبيات رسما ملونا تسهل قراءته والوقوف عند جزئياته الأساسية، فهو نكران للمنكر ونصرة للحق، واتباع للمنهج المحمدي البين، واعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الأوحد، والابتعاد المحدثات في الدين مما استحدث بعد القرون المزكاة من شبه في العقائد...

والأبيات كذلك تطرح فكرة أساسية وهي أن الحق ليس دائما مع الغلبة في الظاهر لأن ابليس عليه لعنة الله تعهد باحتناك ذرية آدم إلا قليلا، ولأن أهل الباطل اليوم أكثر عددا وأكثر وسائل وتأثيرا.

والنص يثير المسألة بشيء من الاستنكار إذ يشهر بهؤلاء الذين ألهوا الناس عن صفاء الإسلام ونور القرآن وهدي الحديث حتى كاد الدين أن يتحول إلى طقوس لا حياة فيها.

إنها كلمات تنبض بالإيمان القوي خرجت من الشاعر بعد أن لم يعد يتحمل ما حصل، وتظهر في النص جملة من الصور الموسيقية الداخلية لتكسبه جمالا ومتعة مثل ظاهرة التكرار الكثيرة (كن للإله ، كن لقوم ، كن مع الحق ) وكذلك:(أنكر المناكرا، زعموا مزاعما، احتنكوا أهل الفلا، احتنكوا الحواضرا) وكذلك تكثر في النص بعض الأدوات اللغوية الرابطة مثل حرف العطف (وكن،واسلك،ولاتعد..)وكذلك حرف الفاء (فاحكم، فماتلي،فلا تمار) وهو ما يضفي على النص قوة ترابطية مكينة، وهناك أيضا بعض الأدوات اللغوية الأخرى التي ترددت في النص مثل حرف الجر مشكلا وترا موسيقيا خاصا(في أمره، في أمرهم، فيهم..) وهناك بعض الصيغ الصرفية التي تكررت كثيرا مثل طغيان اسم الفاعل على القافية(دائرا، ضائرا، سائرا، مهاجرا ، حواضرا، ظاهرا) مما قد نفسره باستحثاث القوة لطلب التغيير لانتشال هذا الدين من مرحلة غثائيته ووهنه إلى مرحلة فعله وتأثيره، لأن الفعل والتأثير في العادة لصيقان بالفاعل أكثر من باقي الصفات.

والنص يحتوي على 28 فعلا تتوزع بين الماضي و الحاضر والأمر ويشكل الماضي الزمن المسيطر لحضوره القوي في مساحة النص حيث احتل ثلاثة عشر فعلا يليه الأمر في تسعة أفعال ثم المضارع الذي جاء فقط في ستة أفعال وهو ما قد نفسره بحضور ماضي الإسلام المزدهر في مخيلة الشاعر وبكاؤه على هذا الماضي المجيد الذي ابتعد وابتعدت معه حضارة المسلمين وعزتهم وأصبح تأثيرهم لا يتعدى هامش الحياة فقط.

وأما حضور الأمر في الدرجة الثانية فهو نوع من تجاوز الحاضر المرير حاضر المحدثات والبدع والأهواء، حاضر التفرق والتشتت شيعا ومللا ونحلا ، وإلباس بعض المسلمين بأس بعضهم.

ويحاول الشاعر تجاوز هذا الحاضر المأساوي ليبشر بمستقبل مشرق بجملة من أفعال الأمر الدالة على الإسراع لإحقاق العدل والحق ، وإزاحة البدع والظلم والطغيان.

ومن البديعي أن تصوير الشاعر لهذا الثلاثي الزمني جاء مقلوبا وكأنه يصور بآلة فوتوغرافية حيث جاء الأمر أولا (كن للإله ، كن مع الحق ، لاتعد نافعا، اسلك سبيل المصطفى، مت عليه سائرا...

ويعزز الشاعر هذا الموقف في مخيلته بجملة من الصور البلاغية مثل الطباق: (نافعا، ضائرا) (أولنا ، آخرنا) (أهل الفلا ، أهل الحواضر) (أكابر ، أصاغر) وكذلك التضمين في قوله (ولاتمار فيهم إلا مراء ظاهرا).

وتنبئ الصورة الكبرى في النص عن علاقة الماضي المزدهر بالحاضر الهابط علاقة عكسية أو نقيضة، فهي علاقة متوترة بين ماض من الدين وضيء وحاضر من البدع والخلافت مليء، ليخرج النص انعكاسا لهذا التوتر فتطغى جمل الأمر بقوتها على الخطاب مشكلة دعوة قوية إلى التغيير(أنكر المناكرا، اسلك سبيل المصطفى..) وبالأفعال الأمرية المفهومة من واقع المسلمين (أحدث الناس في الدين كثيرا، موهوا حقائقه ...) فتلوح في الأفق جمل أمرية منبنية عليها(تمسكوا بالكتاب، لا تغتروا بكثرة أهل الباطل وقوتهم..).

والحقيقة أن القطعة رغم قصرها قد طرحت جل أمور المسامين وأمراض الأمة المسلمة اليوم وإن بشيء من الإيجاز والإيماءة أحيانا، وهذي القطعة تستحق فعلا كونها النشيد الوطني لموريتانيا المسلمة، موريتانيا الموحدة، موريتانيا القوية والمتقدمة...

وينبغي أن يظل طلاب المدارس في مداريهم والجنود في ثكناتهم يرددون هذا النشيد باستمرار ، وأن يظل لحنه في الآذان حاملا تلك الرسالة النبيلة الباقية إلى الأبد...

وفق الله بناة الدولة وتقبل منهم، وسدد خطى كل من يرى الحق حقا ويتبعه ويرى الباطل ويجتنبه...

وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

أحمد ولد الشيخ ولد ديديه

انواكشوط بتاريخ:15/04/2016

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122