نازلة بيع الذنوب/الدكتور محمد الأمين ولد عالي

2016-01-16 00:30:00

نازلة بيع الذنوب تستحق منّا البحث والتنقيب والترجيح وبسط الأدلة، و قد ترجح لدى الباحث بعد النظر في الأدلة وترجيح الشيخ آب ول اخطور لها ـ أن هذا النوع من البيع لا يصح وليس له سند شرعي، وأنه ليس من البيوع المعروفة عندنا في الفقه الاسلامي ولا من البيوع التي تصلح للتكييف الشرعي،

.

وأن أهم عنصر وركن من أركان البيع مفقود وهو الثمن والمثمن وقد أشار الشيخ خليل في مختصره إلى صحة البيع بقوله: "يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ بِمُعَاطَاةٍ"، فكيف تكون المعاطاة هنا؟ وهل السيئات والذنوب مال متقوم يصلح الانتفاع به؟ وهل يعرف عددها بالتحديد؟ وهل المثمون مناسب للثمن هنا أو أقل منه أو أكثر منه؟ فحصل هنالك غرر فاحش والغرر الفاحش من مبطلات العقود المالية عندنا .

قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضوائه في هذا النوع من البيوع "... وأنه لا يملك الإنسان ولا يستحق إلا سعي نفسه، وقد اتضح بذلك أنه لا يمكن أن يتحمل إنسان ذنوب غيره، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة معلومة.".
ويشير الباحث هنا إلى أدلة العلامة المفسر النحرير الامام القرطبي مفصلة بكلامه ثم يتبعها بترجيحات وأدلة الشيخ الشنقيطي:
أولا : أدلة العلامة القرطبي :
فقد وردت الاشارة إلى هذه النازلة في تفسير الامام القرطبي عند قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) [النجم : 33 - 41]
وقد استعرض الأدلة الآتية حيث تحدث عن سبب نزول هذه الآية الكريمة عنده وهي: لما بين جهل المشركين في عبادة الاصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله.
قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيّره بعض المشركين، وقال: لم تركت دين الاشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن [ له ] ثم بخل ومنعه فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: كال الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل: (وأعطى قليلا) أي من الخير بلسانه (وأكدى) أي قطع ذلك وأمسك عنه.
وعنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الايمان ثم تولى فنزلت: (أفرأيت الذي تولى) الآية.
وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب ابن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك ألا يبقى لك شئ.
فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه ! فقال له عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها.
فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن بعض ما كان يصنع [ من الصدقة ] فأنزل الله تعالى: (أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلا وأكدى) فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمله. ذكر ذلك الواحدي والثعلبي.
ثانيا: ترجيح العلامة : محمد الأمين بن محمد المختار والمعروف بآبّ ولد اخطور صاحب كتاب أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) [النجم : 33 - 41] .
قوله: تَوَلَّى : أي رجع وأدبر عن الحق, وقوله: وَأَعْطَى قَلِيلاً ، قال بعضهم قليلا من المال, وقال بعضهم: وَأَعْطَى قَلِيلاً من الكلام الطيب, وقوله: وَأَكْدَى أي قطع ذلك العطاء ولم يتمه، وأصله من أكدى صاحب الحفر إذا انتهى في حفره إلى صخرة لا يقدر على الحفر فيها، وأصله من الكدية وهي الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه فتمنعه الحفر، وهذا الذي أعطى قليلا وأكدى، اختلف فيه العلماء، فقيل هو الوليد بن المغيرة قارب أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فعيره بعض المشركين، فقال: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه ثمامة. فأنزل الله عز وجل الآية.
وعلى هذا فقوله: تَوَلَّى أي الوليد عن الإسلام بعد أن قارب، وَأَعْطَى قَلِيلاً من المال للذي ضمن له أن يتحمل عنه ذنوبه. وَأَكْدَى : أي بخل عليه بالباقي، وقيل أَعْطَى قَلِيلاً من الكلام الطيب كمدحه للقرآن، واعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وَأَكْدَى أي انقطع عن ذلك ورجع عنه. وقيل: هو العاص بن وائل السهمي، كان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وذلك هو معنى إعطائه القليل ثم انقطع عن ذلك، وهو معنى إكدائه، وهذا قول السدي ولم ينسجم مع قوله بعده: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ .
وعن محمد بن كعب القرظي أن أبو جهل، قال: والله ما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا بمكارم الأخلاق، وذلك معنى إعطائه قليلا، وقطعه لذلك معروف.
واقتصر الزمخشري على أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو أخوه من الرضاعة: يوشك ألا يبقى لك شيء. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى، وأرجو عفوه، فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن العطاء فنزلت الآية.
ومعنى: تَوَلَّى ترك المركز يوم أحد، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل. انتهى منه.
ولا يخفي سقوط هذا القول وبطلانه، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
...والأمر السادس والسابع: وهما أن عمله سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ، فقد جاءا موضحين في آيات كثيرة كقوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ, وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأعراف:8-9].
وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ, وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:8].
وقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
وقوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً, اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: فَهُوَ يَرَى أي يعلم ذلك الغيب، والآية تدل على أن سبب النزول لا يخلو من إعطاء شيء في مقابلة تحمل الذنوب عمن أعطى لأن فاعل ذلك ليس عنده علم الغيب، فيعلم به أن الذي ضمن له تحمل ذنوبه بفعل ذلك، ولم ينبأ بما في الصحف الأولى، من أنه لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي لا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى.
وقد قدمنا تفسيره موضحا في سورة بني إسرائيل، وأنه لا يملك الإنسان ولا يستحق إلا سعي نفسه، وقد اتضح بذلك أنه لا يمكن أن يتحمل إنسان ذنوب غيره، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة معلومة.

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122