ندوة بالثقافي المغربي حول تراث العلامة محمد الاغظف المحظري وجهوده النحوية (الحلقة 1)

2016-01-13 01:02:00

احتضنت قاعة المحاضرات بالمركز الثقافي المغربي محاضرة تحت عنوان :"محمد الاغظف المحظري وجهوده النحوية بين الاحتفاء والاختفاء(وقفة مع شرح الرجل لمنظومة المولى عبد الحفيظ لمغني ابن هشام)" ألقاها الدكتور محمذن بن أحمد بن المحبوبي رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية

.



المحاضرة حضرها القلئم بالأعمال فى السفارة فى المغرربية ولفيف من الأكاديميين وكبار الشخصيات الرسمية الموريتانية والإعلاميين إضافة إلى طلاب المحاضر وقدم لها الدكتور محمد القادري مدير المركز بكلمة قيمة رحب فى مستهلها بالحضور مستعرضا أهم المحاوور التى تتضمنها المحاضرة قبل أن يحيل الميكرفون إلى المحاضر الذى قدم بدوره عرضا شيقا نال استحسان الحضور وأشفع بنقاش شيق من طرف الحضور وهذا نص محاضرة الدكتور المحابوبي:

 

"من الواضح أن العلوم اللغوية هي أساس التفقه في الدين وعنوان التميز في الأسلوب،  وهي السبيل إلى تقويم اللسان وإحكام المنطق والبيان، لذلك اعتنى العلماء بها قديما وحديثا، فحرصوا جهدهم على اعتمادها والصدور عنها في التأليف والتدريس ، وكان للشناقطة من ذلك نصيب مفروض، فقد دأب سلفهم الصالح على إحكام علوم اللغة من نحو وصرف وبيان، وعدوا ذلك شعار الفتوة وآية العبقرية، فجاء اللغوي محمد الاغظف بن أحمد المحظري الجكني ليواصل جهود سلفه من الشناقطة، عاملا على إحياء علوم اللسان وتجديد قطع غيار اللغة موسعا دائرة البحث في موضوعاتها المختلفة، فماذا عن هذا المحظري وتراثه النحوي؟ وما أبرز إسهاماته في هذا الحقل؟ وكيف كان عاقبةسعيه في هذا التوجه المعرفي؟ فهل جدد في جنبه  وأضاف؟ أم إنه ردد  وأعاد؟
ذلك ما يحاول هذا الجهد أن يجيب عن بعض جوانبه من خلال ثلاثة محاور أولها يعرض للمحددات الأولية للموضوع، وثانيها يعني بجهود الرجل في شرح النصوص النحوية وتبسيطها مما جعل كثيرين يحتفون بجهوده ويقدرونها أيما تقدير، وثالثها ينبه إلى ما تعرض له تراث هذا الرجل من النسيان والتهميش، فقد عاش برهة من الزمن مغمورا مغبونا لا يعرف عنه إلا اليسير، وربما يرجع ذلك إلى أنه عاش أكثر أيامه في المهجر بعيدا عن الأهل والوطن.

أولا: المحددات الأولية
وضمنها نعرض لمحورين أولهما يعنى باستنطاق العنوان والوقوف مع الوحدات المعجمية المؤسسة له، وثانيهما يقدم ترجمة موجزة لهذا المحظري.
أ- العنوان محاورة وتحليل:
إن عنوان هذا الموضوع يقوم على ثلاثة تركيبات نحوية أولها نعتي "محمد الاغظف المحظري" وثانيها نعتي كذلك "وجهوده النحوية" وثالثها إضافي عطفي "بين الاحتفاء والاختفاء"، وقد ربطت بين هذه التركيبات أداة العطف "و" وظرف المكان "بين" اللذين وردا للُّحمة والتنسيق، والإلصاق وإحكام التركيب.
أما التركيب الأول فيحيل على الرجل موضوع البحث، الذي هو محمد الاغظف بن أحمد المحظري الجكني وسنخصه بمزيد تعريف.
ويأتي التركيب الثاني "وجهوده النحوية" مفتتحا بكلمة "جهود" التي هي جمع "جهد" وهو لغة: "الطاقة" ويضم، ويطلق على المشقة، وهو مشتق من جَهَدَ كمنع، جدّ كاجتهد( ).
وهذه الجهود موصوفة بأنها نحوية نسبة إلى النحو الذي هو لغة القصد، يقال: نحوت نحوه قصدت قصده، ويطلق على الطريق والجهة والمثل والمقدار والنحو، جمعه أنحاء ونحو. وقد جمع أحمد بن كداه الكمليلي( ) معاني كلمة "نحو" في بيتين وجههما إلى شيخه يحظيه بن عبد الودود منوها بمكانته ومبرزا علو كعبه في النحو يقول( ):
نحونا بأنحاء من الحاج نحوكم
        تناهز نحو الألف أو هي أكثر

فنلنا جميع الحاج لا النحو عاجلا
        فنحوكم يا شيخ بالنحو أجدر

والنحو في الاصطلاح علم تعرف به أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء، والعالم به نحوي( ). وقيل: هو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أجزائه التي ائتلف منها( ). وقد عرفه المتأخرون بأنه: "علم يبحث في أواخر الكلم إعرابا وبناء، فموضوعه دراسة الكلمة العربية وما يعرض لها من أحوال الإفراد والتركيب، وغايته الاستعانة به على فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفائدته الاحتراز عن الخطإ في الكلام والتمييز بين صواب الكلم وخطئه"( ).
وكلمة النحو مصدر أريد به اسم المفعول أي المنحو يعني المقصود وقد غلب لفظ النحو على هذا العلم بالرغم من أن كل علم غير النحو منحو هو الآخر، وقد ذكر أن سبب تسمية هذا العلم بذلك ما روي أن عليا رضي الله عنه لما أشار إلى أبى الأسود الدولي أن يضعه وعلمه الاسم والفعل والحرف وشيئا من الإعراب وقال له انحُ هذا النحو يا أبا الأسود. وقد أطلق لفظ النحوي على كل من مارس صناعة النحو وتعلمه وعلمه وعني بمسائله ترتيبا وجمعا أو تصنيفا وتأليفا( ). وقد جاء هذا التركيب النعتي ليحدد لنا مجال البحث والدراسة ويحصرها في الجهود النحوية.
أما التركيب الإضافي العطفي الثالث "بين الاحتفاء والاختفاء" فهو مفتتح بظرف المكان "بين" الذي يحدد المسافة الفاصلة بين أمرين، وتأتي بعده كلمة "الاحتفاء" التي هي مصدر احتفى بفلان وبه إذا احتفل واعتنى، ثم تأتي كلمة "الاختفاء" وهي مصدر اختفى الشيء استتر وتوارى، كما يقال: اختفى منه أيضا، وقد جاء هذا التركيب ليبرز وجهة البحث ومنهجه مصرحا أنه يروم المقارنة بين مستويين تلوح معالمها بشكل واضح في مؤلفات الرجل؛ إذ تتراوح مجهوداته بين الاقتفاء والاستيفاء، وبين العناية والإهمال.
وبالجملة فإن عنوان الموضوع يسعى بجدية إلى استعراض جهود الرجل في النحو، مقدما نماذج من إسهاماته في هذا العلم، مقارنا بين مستويين من مستوياتها ليكشف عما عرف تراثُ هذا المحظري النحوي من التقلب بين الاندثار والانتشار.
وسنكتفي في هذا الحديث المرتجل والقدير المعجل بإشارات يسيرة تعرف بهذا العلم وتثير جملة من آرائه النحوية.
ب- النحوي المحظري: ترجمة وتعريف
ونود أن نعرض لترجمة الرجل في مستويين، أولهما يركز على السيرة الذاتية، وثانيهما يهتم بالجهود العلمية:
1- السيرة الذاتية:
وخلال هذه السيرة نود أن نتوقف مع عدة محطات تشمل الوسط والنسب والمولد والنشأة والدراسة والتعلم لتعرج بعد ذلك على رحلاته العلمية وحجه دون أن تنسى إشعاعه الثقافي وحضوره في حقل التدريس.
الوسط والنسب:
ينتسب هذا الرجل إلى وسط معرفي وبيئة عالمة، فهو محمد الأغظف بن محمد مولود بن خي بن محمد عبد الدايم بن عبد الله بن محم المحظري  الإبراهيمي الجكني الوسري نسبة إلى مجموعة "الوسرة" التي تنتمي إلى عدة بطون من قبيلة تجكانت، وهي عبارة حسانية تفيد معنى التلاحم والتعاضد( ). فأبوه أحمد مولود  كان من أهل العلم الذين ورثوه أبا عن جد وكابرا عن كابر، وقد تسمى باسم الولي الصالح محمد الأغظف بن حمى الله بن سالم الداودي، الذي هو أحد أجداده. أما والدته فهي خدي بنت الطالب محمد بن عبد المالك الداودية ولها مشاركة في العلوم.
وهكذا ففي هذا البيت المزوج العالم الذي جمع بين الحكمة الجكنية والمعرفية الداودية تنفس الرجل أوكسجين الحياة فنشأ معما في عشيرته مخولا، فنال عظيم العناية في أحضان هذا البيت الكريم.
النشأة والتعلم
لقد ولد الرجل في حدود سنة 1262هـ بضواحي مدينة ولاتة الواقعة بمنطقة الحوض الشرقي،  فتربى في أحضان تلك الأسرة العلمية المتميزة وذلك الوسط الثقافي الممتاز، فدرس القرآن الكريم في فاتحة أيامه وحفظه في سن مبكرة من حياته، ثم سمع مبادئ العلوم العربية والإسلامية من علماء منطقته وبعد ذلك انتقل إلى مدينة ولاتة حاضرة العلم يومئذ، فقد كان يؤمها من حولها من أهل القرى، إذ بلغت على ذلك العهد أوج تألقها العلمي وزهرة حياتها الثقافية  "فنهل" من معين مكتباتها، وارتوى من عطاء شيوخ محاظرها، فلازم بعضهم حتى أجازه( ). وقد نشأ على شاكلة أقرانه من أبناء زمانه، فقرأ القران العظيم ودرس مبادئ العلوم الإسلامية والعربية على علماء منطقته وقد حفظ القرآن العظيم وتلقى أسس العلوم الشرعية وأساسياتها. ومن أبرز الذين التحق بمجالسهم العلمية العلامة القاضي أحمد بن عبد المالك الداودي، الذي أخذ عنه علم الفقه، كما جلس إلى حلقة العلامة محمد يحي بن محمد المختار الولاتي، الذي أجازه في علم الحديث والأصول، ولغة العرب، فلبث فترة وهو يتنقل بين مدارس ولاتة ومكتباتها التي تغص بمختلف أصناف الكتب التراثية، وخلال مقامه هنالك جدد معارفه ونوع تخصصاته، مستفيدا من أئمة هذه المدينة وعلماءها أكمل الفائدة.
ولما اكتمل تكوينه المعرفي واستوى على سوقه، طفق يبحث عن المزيد فواصل رحلة طلب العلم متلبثا بمدينة تيشيت وتيمبكتوا حيث التقى بعدد من علمائهما آخذا عنهم عدد من النصوص، الشرعية واللغوية، ليستوعب بذلك أهم المقررات بالمحاظر الشنقيطية يومئذ. تساعده في ذلك همة عالية وذكاء وقاد، وعزيمة لا تلين، فقد نذر نفسه لاطلاب المعرفة واكتساب العلوم، فظفر بمقصوده وحصل على مراده، ونال من العلم ما هيأه لأن يؤسس محظرة عالية المستوى، عرفت شهرة وسيرروة نادرة بين العالمين.
2- محطة العطاء والتدريس
لقد بدأ الرجل جهوده التدريسية بمنطقته أولا، فلما اكتملت معارفه الأولية رجع إلى حيه في أواخر القرن الثالث عشر الهجري قريبا من سنة 1290هـ، إذ يذكر أن الشيخ محمد الخضر بن مايابى زار محظرته قريبا من سنة 1298هـ،  حيث درس عليه علوم المقرأ وأخذ عنه إجازة في قراءة نافع، كما سمع منه رسالة بن أبي زيد القرواني، وبعض النصوص الفقهية، ، وإثر ذلك تسابق الطلاب إلى دروس هذا الشيخ،  لما ينعمون به في كنفه من نافع الحكمة ونادر العلوم، فتخرج من مدرسته أعلام أفذاذ وأئمة أعلام، من أمثال محمد الخضر بن مايابى و محمد الأمين بن ابراهيم، ومحمد المختار بن أكاي وأحمد بن محمد آب، والعلامة الشيخ سيدي محمد بن الياس الجماني، وغيرهم كثير.
 وإثر ذلك ارتحل إلى الحجاز ليؤدي المناسك حقها، فزارها ثلاث مرات، وفي رحلة العودة الثالثة مر بمدينة مراكش، فالتقى السلطان المغربي الحسن الأول الذي اكتشف معارفه وعلو كعبه في العلوم فحرص على استبقائه إلى جنبه "واعتبره" جوهرة نادرة رمت بها الصحراء الشنقيطية وعليه أن يعض عليها بالنواجذ. فقربه وطلب منه الإقامة معه مكرما معززا، فقبل ثم أسند إليه مهام متعددة( ) شملت التدريس والقضاء، وبذلك ذاع صيته واشرأبت إليه الأعناق، وانصرفت تلقاء دروسه الأبصار، وتسابق الطلاب إلى حرمه، يمتحون من ينابيعه الثرة ، فسمع منه خلق كثير، وتخرج على يده علماء أفذاذ منهم السلطان مولاي عبد الحفيظ، الذي أجازه في مختلف العلوم الشرعية واللغوية، وفي هذه الفترة أصبح الشيخ محط الأنظار ومنتهى القصد في مدينة مراكش التي تعد يومئذ مشعلا ثقافيا   و"مركزا علميا وملاذا للوافدين من علماء شنقيط ومشاهرها". وبذلك مثل حضور الشيخ هنالك تحولا كبيرا في العلاقات الثقافية بن أرض المغرب وبلاد شنقيط، فقد مثل بحق قنطرة التبادل الثقافي بين طرفي الصحراء فرد بجهوده العلمية الجميل إلى المغاربة، وأتحفهم بالمعارف في  لحظات هم بحاجة إليها.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الشيخ ارتحل إلى المغرب وأقام به، وتوطدت صلته بالمولى عبد الحفيظ، فقربه وأهدى إليه الهدايا العظام، فيذكر أنه حبس عليه وعلى ولده محمد عبد الله قطعا أرضية، وذلك ما أوضحه صاحب الإعلام قائلا: «... فحبس عليه وعلى ولده محمد عبد الله جميع البياض المسمى بأرض سيد احمد الرحالي بتسلطانت وبوره وجميع أربع فرديات عن كل عشرة أيام من ساقية تسلطانت حبسا مؤبدا، وتضمن الظهير الحفيظي تحديد الأرض المذكورة وبورها»( ).
وقد توفي الرجل بمراكش في شوال عام 1337هـ ودفن بروضة الإمام السهيلي، وقام أهل المدينة بتجهيزه قياما عجيبا، واجتمع عليه خلق كثير وجم غفير كبراء وأجلاء وغيرهم( ).
وقد خلف الرجل آثارا لعل من أبرزها شرحه على منظومة المولى عبد الحفيظ المعروفة بالسبك العجيب في معاني حروف مغني اللبيب، إضافة إلى عدد من الأنظام النحوية.
3- المكانة والتقدير:
نال العلامة محمد الأغظف بين معاصريه من العلماء مكانة عالية، فقد خلع عليه صاحب "الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام" جملة من الصفات الكريمة تؤكد رسوخ قدمه في الفقه، وتمكنه من ناصية اللغة وعلو كعبه في التصوف يقول: «الفقيه البركة الناسك العلامة الأورع المشارك الذي لا ينفك عن ذكر الله المعود لسانه كلمة لا إله إلا الله، شيخ الأخيار والأمراء الكبار والعرفاء، أخذ عن الشيخ سيدي محمد يحيى الولاتي، وشرح نظم مغني اللبيب»( ).
كما يؤكد الروداني علو كعبه في الفقه ومشاركته في مختلف المعارف والعلوم، إذ يقول: "الفقيه العلامة البحر الفهامة المشارك في جميع العلوم المنظوم منها والمنثور سيدي محمد الأغظف"( ).
ويضفي عليه السلطان مولاي عبد الحفيظ صفات الولاية والصلاح والقطبانية، مصرحا بتلمذته عليه، منبها إلى كثرة مؤلفاته وعموم فائدتها على الناس، مشيرا إلى تميزه في مختلف المعارف والعلوم، مستعرضا جانبا مهما من عبادته وإخباته وانقطاعه للخالق سبحانه وتعالى، وعزوفه عن زهرة الدنيا وسلامته من أمراض القلوب، منتهيا إلى أنه من صفوة العباد، وأئمة الزهاد، يقول: «(...) وأشياخي منهم الولي الصالح والقطب الواضح ذو التآليف العديدة والفوائد المفيدة، والقدم الراسخ في معرفة الله عز وجل سيدي محمد لغظف حج وهاجر واعتكف، وقام من الليل نصفه أو كله، رجل من أهل الجنة على وجه الأرض لا غل ولا حقد ولا حسد ولا غيبة في الجميع ولا في البعض، إذا زنته بقوله تعالى ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، والذين يبتون لربهم سجدا وقياما﴾.. وجدت ذلك له مقاما »( ).
وقد أكد هذه الشهادة الطيبة صاحب كتاب المعسول ناقلا عن بعض من عرف الشيخ وخالطه عن كثب حيث يقول: « قال الباش  - يعني الباشا منو – ومن الشنكيطيين عالم ورع إلى الغاية .. لم أعهده يرسل لسانه في أحد يسمى محمدا الأغظف ، وهو من الذين يصاحبهم الخليفة مولاي عبد الحفيظ، ويذاكرهم في مجالسهم العلمية»( ).
ويؤكد الشيخ الطالب احمد بن الدِّيدَّه الجماني رحمه الله أن الشيخ محمد الاغظف من أول من اعتنى بتدريس احمرار ابن بونه ونشره في بوادي منطقة الحوض، وأن معظم من اشتهر بتدريسه في تلك المنطقة كانوا من تلامذته مباشرة أو بواسطة( ).
ويعد هذا النحوي من أبرز الوجوه الثقافية بالساحتين الشنقيطية والمغربية في صدر القرن الرابع عشر الهجري، فقد سعى جهده إلى إحياء علوم اللغة فأتحف المكتبة اللغوية بنافع الحكمة ورفيع الكتاب، فتنوعت جهوده العلمية ما بين التأليف والتدريس.
4- الجهود العلمية:
ما من شك في أن هذه الجهود عديدة ومتنوعة وقد تراوحت بين التأليف والتدريس فمن المعلوم أنه كان شيخ محظرة تدرس بساحتها منظومات النحو وكتبه، كما عول في رحلته على بث كثير من المعارف النحوية بعدد من المراكز الثقافية والمحطات العلمية التي مر بها خلال ارتحاله، وذلك ما سنعرض له في مستويين:
•     الإلقاء والتدريس:
 فقد جلس الرجل بمراكش ليدرس النحو، فأخذ عنه المولى عبد الحفيظ واستفاد من دروسه، ولعله هو الذي أذكى في هذا السلطان جذوة التعلق بالثقافة الشنقيطية والاعتناء بها، فقد صرح ابن اباه أن المولى عبد الحفيظ عول على المنهج المحظري الشنقيطي، مستأنسا بأنظامه وشروحه، آخذا بجسمه وبروحه، إذ اعتمد آراء مجموعة من النحاة الشناقطة استحضرها في منظومته وأحال عليها عدة مرات يقول: «ويبدو أن المولى عبد الحفيظ قد تركزت معارفه في المدرسة الشنقيطية التي اعتمد منهجها في الشرح والنظم وفي الأصول المرجعية وهي مدرسة ابن مالك والمختار انجبنان الشنقيطي والمختار بن بونه الجكني والشيخ بن حبت القلاوي وسيد محمد الأغظف الحوضي»( ).
كما يشير ابن اباه إلى أن المولى عبد الحفيظ احتفى كثيرا باثنين من أساتذته ومن بينهما صاحبنا محمد الأغظف المحظري الجكني، حيث يقول: «اعتاد المولى عبد الحفيظ أن يردد ذكر اثنين من شيوخه ويورد إملاءاتهما وأنظامهما وهما: مولاي علي الروداني الإدريسي، وسيدي محمد الأغظف»( ).
•     الإيضاح والتأليف:
وسنستعرض نبذا من هذه الجهود التأليفية في مستويين، أولهما يركز على الشروح والتعليقات، وثانيهما يعول على الأنظام والتقييدات:
1- الشروح والتعليقات:
ونقصد هنا بالأساس شرح الرجل لمنظومة المولى عبد الحفيظ المعروفة بـ "السبك العجيب لمعاني حروف مغني اللبيب"، وهو شرح بالغ الأهمية، ويستمد طرافته من طرافة الموضوع وموسوعية الناظم والمؤلف، وهو عبارة عن تتبع دقيق لألفاظ منظومة هذا السلطان، سعيا إلى تيسير ألفاظها وتقريب معانيها إلى الأذهان.
وقد استهل شرحه بالثناء على الله سبحانه وتعالى والصلاة والسلام على رسوله محددا موضوعه بدقة، مصرحا أن السلطان مولاي عبد الحفيظ دعاه إلى أن يضع شرحا على منظومته المذكورة فبادر إلى ذلك مذللا صعوبات الألفاظ ومتوسعا في الإيضاحات والتعقيبات يقول: «الحمد لله الذي خلق الإنسان وجعل له الفهم والبيان، ليتوصل بهما إلى فهم ما أمر به من جميع الأديان، وصل وسلم على سيد أولاد آدم وعدنان، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في الإحسان.
أما بعد فقد أمر من لا تسع مخالفته أديمت نصرته وخلافته وعزته، خليفة الله في أرضه، أعانه الله على كل حوائجه وأموره الهمام ابن الهمام، الإمام ابن الإمام، سيدنا ومولانا عبد الحفيظ ابن مولانا الحسن قصير الفهم والاطلاع وقليل العلوم والاتباع محمد الاغظف بن أحمد بشرح نظمه الرائق المسمى بـ "السبك العجيب لمعاني حروف مغني اللبيب" هذا موضع الشروع في المقصود مستعينا بحول الله وقوته»( ).
ولنقف مع نماذج من شرح الرجل لمنظومة المولى عبد الحفيظ مركزين بشكل خاص على باب القواعد الكلية العامة التي ختم بها ابن هشام كتابه المغني.
ففي القاعدة الأولى يقول الناظم( ):
وربما حكم للشيء بما
        أشبه لفظا ثم معنى أو هما

ويعلق الشارح على هذا البيت قائلا: «إن من أمثلة هذه القاعدة زيادة الباء في خبر "أن" المفتوحة في قوله تعالى: ﴿أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى﴾، حيث حملوا في المعنى "أن" على "ليس" في مصاحبة الباء للخبر لأنه بمعنى "أوليس الله بقادر" ومنها حذف خبر المبتدإ بعد "إن" و"لكن" و"أن" اكتفاء بخبرها عن خبر المبتدأ بعده، نحو: إن زيدا قائم وعمرو، لما كان إن زيدا قائم في معنى زيد قائم وعمرو»( ).
وفي القاعدة الثانية يقول الناظم( ):
وربما أعطي شيء حكم ما
        جاوره كجحر ضب فاعلما

وبعضهم أنكر ذا وجعلا
        ما بعد ضب صفة له حلا

ويعلق الشارح على البيتين قائلا: يعني أن القاعدة الثانية هي إعطاء شيء حكم ما جاوره، كقوله هذا جحر ضب خربٍ، وخرب نعت لجحر. ومثل قول امرئ القيس:
كأن أبانا في أفانين ودقه
        كبير أناس في بجاد مزمل

ثم ذكر أن السيرافي والمبرد تأولا "خرب" نعتا لـ "ضب"( ).
ومن نماذج هذا الشرح كذلك ما ورد من تعليقه على نظم المولى عبد الحفيظ للقاعدة الرابعة من المغني إذ يقول الناظم( ):
وغلبوا شيئين مهما وردا
        للاحتياط أو تناسب بدا

كالمشرقين المغربين الابوين
        والقمرين العمرين الخافقين

ومما مثل به الشارح في "القمرين" قول المتنبي:
واستقبلت قمر السماء بوجهها
        فأرتني القمرين في وقت معا

2- الأنظام والتقييدات:
وسنكتفي في هذا الجانب بإيراد نظمين من أنظامه، جاء أولهما إكمالا وتتميما وتوضيحا لقول ابن مالك في الموصول:
ومثل "ما" "ذا" بعد ما استفهام
        أو من إذا لم تلغ في الكلام

فقد علق الرجل على هذا البيت فأوضح شروط الإلغاء وعلاماته وأوجزها في أمرين: أولهما نصب البَدَل بعد ماذا وكذلك نصب الجواب، فمثال الأول قول الشاعر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
        أنحبا فيقضى أم ضلال وباطل

ففي حالة رفع كلمة "نحب" يتأكد أن "ذا" بعد "ما" موصولية و"نحب" بدل منه، وفي حالة النصب يترجح الإلغاء فتكون "ماذا" كلها كلمة واحدة وقعت مفعولا به متقدما لفعل يحاول و"نحبا" بدل منها، كما يترجح الإلغاء أيضا إذا وردت "ذا" قبل اسم الموصول "الذي" على نحو ما في قوله تعالى: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾( )، وقوله جل من قائل: ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له﴾( ).
وهذه القيود هي ما عبر عنها هذا المحظري بقوله( ):
علامة الإلغاء نصب البدل
        أو الجواب بعد ماذا فاقبل

بعكس رفع فيهما قبل الذي
        يرجح الإلغاء عنهم فخذ

وجاء النظم الثاني ليوضح الأقوال الواردة في إعراب الكاف المتصلة بأرى التي بمعنى أخبر حيث يقول( ):
بعد أريت اخبرْ أتى استفهام
        ظاهرا او ينوى ولا ملام

مستأنف عند الرضى وابن هشام
        مفعول آخر والاول أمام


ثانيا: تراث الرجل بين الاحتفاء والاختفاء
ونسعى في هذا المقام إلى أن نذكر بأن تراث الرجل قد تداوله العلماء بكثرة وتناولوه بجدية، غير أنه مع ذلك لم يسلم من بعض الغبن والتهميش، فقد عرف في بعض الفترات نسيانا، إذ أسدل عليه التاريخ من ستوره، وذلك ما سنعرض له في مستويين:
أ- ملمح العناية والاحتفاء:
وقبل الحديث عن اهتمام العلماء بتراث الرجل نود أن نذكر بأن أن اعتناء هذا المحظري بمنظومة السلطان عبد الحفيظ رفع له ذكره بين العالمين، فكانت تلك المنظومة ذات تأثير كبير لا على المؤلف وحده بل على تراث ابن هشام في الغرب الإسلامي، وخاصة كتابه المغني، لذلك يمكن القول في شيء من التجوز إن تلك المنظومة تعد المحفز والمثير لكثير من الشروح والأنظام التي اعتنت بالمغني، فإن شئت ??

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122