تجليات الثقافة العالمة في الشعر الحساني عنوان محاضرة بالثافي المغربي

2016-01-07 06:11:00

نظم المركز الثقافي المغربي بانواكشوط أمس محاضرة  تحت عنوان تجليات الثقافة العالمة في الشعر الحساني ألقاها الأديب والباحث محفوظ ولد الفتى وحضرها لفيف من الأكاديميين والأدباء والمثقفين

.

المحاضرة قدم لها الدكتور محمد القادري مدير المركز بكلمة قيمة رحب فيها بالحضور مستعرضا أهم المحاور التى تتضمنها المحاضرة، قبل أن يحيل الكلمة إلى المحاضر الذى قدم عرضا شيقا وطريقا حول الشعر الحساني وتأثيرات الثقافة العالمة فيه .

وهذا نص المحاضرة:

 

بسم الله والحمد لله

 

تجليات الثقافة العالمة

في الشعر الحساني

      

        نبدأ هذا العرض بمختصر من الحديث عن جزئيات عنوانه  (تجليات الثقافة العالمة في الشعر الحساني)، وذلك بإضاءات  نستنبطها مما أتيح لنا من اطلاع  على موضوعاتها، ومن بعض تعريفاتها  السابقة واللاحقة من غير تقيد صارم بصيغها أو استغراق شامل لمضامينها.

       

        فنقول عن ((التجليات)) إنها جمع تجلي بمعنى التعرض والظهور.

       

        أما ((الثقافة)) فهي في الأصل الحذق والفطنة، على ما لها من  دلالات معرفية. وبنعتها بـ ((العالمة)) كما في هذا العنوان، تأخذ معنى التوسع في المعارف والعلوم والفنون المكتسبة عن طريق القراءة والكتابة، آخذة مكانة  التميز والرقي  عن الثقافة الشعبية المطبوعة بطابع البساطة والتلقائية في حياة الشعوب.       

 

        أما ((الشعر))، فنستطيع أن نقول عنه: إنه المقول المصاغ في قوالب  نظمية تخضعه  لقوانينها الموسيقية الخاصة، متضمنا ما يقتضيه  المدلول الأصلي لكلمة ((شعر))  من  بواعث الإيحاء  في   وِ جدان المتلقي.

      

          وعندما نقيد كلمة ((الشعر)) بنسبة أو نعت، كنعتها بـ ((الحساني)) هنا، فلم نعد معنيين بما سوى الشعر المنظوم باللهجة  الحسانية السائدة في مجتمع البيظان في مختلف ربوعه، سواء في موريتانيا أو في الجنوب المغربي، أو الشمال المالي، والمنسوب إلى الحسانية نسبة يقتضيها إنشاؤه  بهذه اللهجة التي لا يقبل من غير مفرداتها الأصلية إلا ما سبق أن تبنته وأخضعته لخصائص نطقها.       

 

        نقول هذا وفي علمنا أن لهذا الشعر أسماء أخرى، منها: ((لغن)) و((الموزون)) و ((الأدب الشعبي))... ولكن نفضل  تسميته بـ ((الشعر الحساني))، اعتبارا لكونه مستوفيا شروط وخصائص الشعر في بنيته ومحتواه، أولا،  ولإنشائه بالحسانية على نحو ما أسلفنا، ثانيا.

 

         ومن المهتمين بهذا الشعر من يقترح نعته، في أي تسمية له، بـ ((العربي))، ولكنه مقترح يغني عنه العمل بجواز حذف المعلوم كما يقول ابن مالك في ألفيته: ((وحذف ما يعلم جائز كما* تقول زيد بعد من عندكما)).

 

                                         ***

        بعد هذا المدخل التمهيدي، نخلص لمقصد العنوان المعقود لهذا العرض،  وقد أصبح بإمكاننا الحديث، بوضوح أكثر، عن مظاهر ثقافة عالمة في ثقافة أدبية شعبية في بلاد ((البيظان)) حيث الثقافة الشعبية لها خلفية حضارية تقربها، إلى حد بعيد، من الثقافة العالمة بانتمائها الوثيق للعروبة والإسلام.

       

        كان الشعر الحساني، أول عهده بهذه البلاد (أوائل القرن 9 هـ إلى أواخر القرن 11 هـ)، محصورا  تقريبا في الوسط الحساني متخذا من تمجيد الأمراء وذوي البطولات وغيرها  من الخصال الرائقة للشعراء،  أغراضا رئيسية له، على حين لم يزل الوسط الزاوي محتفظا بما ورثه عن دولة المرابطين من محافظة في التدين الإسلامي ترفض الشعر عموما والحساني خصوصا قبل انتهاء حرب ((شرْ ببّه)) بين الزوايا وبني حسان أواخر القرن 11 هـ،  وما تلا ذلك من نهوض المعارف وازدهارها في الوسط الزاوي، وانفتاح هذا الوسط على الشعر الفصيح كخادم للوحي، وإعادة تشكل مجتمع البيظان (زوايا وحسان) بالاحتكاك، بقدر من التداخل والتعاطي المعرفي والثقافي، حيث أخذ الشعر الحساني طريقه إلى الانتشار والتوسع في الأغراض في عموم ذلك المجتمع،  فاحتوى المواعظ والمديح والابتهال ونحو ذلك، وأصبح منه، إلى جانب الشعر التعليمي الفصيح،  شعر تعليمي حساني تنظم فيه الأبواب والفصول، والنوازل والفتاوى، واستمر حضور هذه المعارف  والمضامين  يتعزز ويزدهر في هذا الشعر على طريق المسار الثقافي للبلاد إلى أن أمَدّنا بثروة طائلة من المعارف والآداب الراقية نتعاطاها اليوم في مؤلفات ومرويات متسمة بسمة الإفادة والإمتاع في هذا الفرع من ثقافتنا وآدابنا.  ويتجلى هذا الحضور في مجمل الشعر الحساني، التعليمي منه والإيحائي.

 

        ومن أمثلته في التعليمي منه، على سبيل التأليف المبوب والمفصل، الديوان الحساني للعلامة الشيخ محمد المامي بن البخاري  الزاخر بالمعارف الشرعية والجغرافية والفلكية وغيرها، ونظم   الشيخ المختار الملقب ((التاه))،  للآجرومية، ونظم السيرة النبوية لأحمدو بمب لكويري. وفي النوازل والفتاوى قول الشيخ أحمد فال بن محمذن فال، مبينا براءة الذمة من زكاة الفطر بمجرد إخراجها وإرسالها: ((مول الفطره كان ارسله * واتعيثر بيه مرسول* ما لازم ل لخلاص اله *  والخرشي هاذ مقول)).

      

       ومن ذلك نظم سجود السهو لسيدي محمد ولد باب أحمد (ابن الكصري)، ونظمه لشريعة الأرض الذي يقول في مقدمته: (شريعت الارض اراعيه * ننظمه للي يبقيه * نعزي كل الكايل فيه * عزو اصحيح امن اكلام الله * ؤكول انبيه ؤ لانخليه * من كول العلم ما ننساه * والعوايد نعمل بيه * ذاك أمر الشريعه ترعاه *). ثم يدخل في ذكر أسباب ملكية الأرض من شراء، وإرث، وإحياء موات  ... إلخ،  ويختم بتحدي الجميع في القول بخلاف مقوله في هذا النظم.

 

        أما حضور الثقافة العالمة، لفظا، وفكرة، وأسلوبا، في  الشعر الحساني الإيحائي، فلا يكاد يحصى. ومن أمثلته، لفظا، بالتضمين أو الاقتباس قول الشاعر، عاطفا على ما أسلف من مدح أميره: (( وآن لاحك من رجاء * لك  حد ابن عرفة * ؤ عجلان إن هؤلاء* يحبون العاجلة)). وقول آخر: ((يالسايلني عن ميمونه* راهي تكر ساحل كيمي * عم يتساءلون * عن النبإ العظيم))... لكن العلماء لا يبيحون هذا النوع من الاقتباس لما فيه من تلاعب بآي الذكر الحكيم، لكنهم لا يرون بأسا فيما سلم من ذلك من مثل قول القائل في خاتمة ((طلعة)) من المديح النبوي، منوها فيها بعفو النبي عليه الصلاة والسلام عن قريش يوم فتح مكه: (الكاوك بأليم النكـ * بات ؤ عدْت امعاهم حليم * عند اعليهم فزت"إنك * لعلى خلق عظيم"))

     

        ومن أمثلته  فكرة في هذا الشعر، إحياء اللوعة الميتة برؤية الدار وتعدد اللفتات إليها، والفناء بآخر لفتة كما في قول ابن الكصري: ((يامس دار ابلقان احيات * ذاك اللي شكيت ان مات * اكبل من تلياع وامحات* من لخلاك اللي خاطيه * واتلفت اعليه مرات * كيف اللي ناسي شي فيه * واعكبت امنين ابعيد ابكات * وانبيت اتلفت اعليه * تلفيت مني ما خلات * فظله لاهي نكره بيه * والل نبق ذ اللي موجود * اتل فالدني راعيه * ماني فيه موجود انعود* نكرهه والل نبقيه)) ..

 

        ففي هذه الطلعة جاء إحياء اللوعة بالدار نظير تحريكها بشدو الطائر في قول علي الجارم: (( طائر يشدو على فنن * جدد الذكرى لذي شجن * قام والأكوان صامتة * ونسيم الصبح  في وهن *  هاج في نفسي وقد هدأت* لوعة لولاه لم تكن)).. وجاءت اللفتات إلى الدار نظير لفتة الشريف الرضي في قوله: ((ولقد وقفت على ديارهم * وطلولها بيد البلى نهب * فوقفت حتى ضج من لغب * نضوي ولج بعذلي الركب * وتلفتت عيني فمذ خفيت * عنها الطلول تلفت القلب)) .. وجاء الفناء باللفتة الأخيرة إلى الدار نظير ذوبان النفس وقطرها في قول أبي حية النميري: ((نظرت كأنني من راء زجاجة * إلى الدار من ماء الصبابة أنظر* فعيناي طورا تغرقان من البكا* فأعشى وطورا تحسران فأبصر * وليس الذي يهمي من العين ماؤها * ولكنها نفس تذوب فتقطر)).

     

        ومن أمثلته أسلوبا خاتمة ((طلعة)) مشهورة للمصطفى ولد اتفاغ اعمر في ((كاف)) يتخذ من الاستعارة التصريحية ـ وهي تشبيه محذوف ما عدا المشبه به من أركانه ـ أسلوبا لم أجد أبلغ منه فيما اطلعت عليه من هذا الشعر..! فقد انطلق هذا الشاعر الفحل في إنشاء ((الكاف)) من تشبيه أبرز مراحل عمر الإنسان بأبرز أوقات اليوم الواحد، فشبه الشباب بالصبح، والكهولة بالزوال، والشيخوخة بالعصر، والفناء، بالليل..! يقول: (( خاظ اعليك الصبح ؤلَّ * ؤ خاظ الزوال اعليك اكبيل * يالطيف العصر ؤصل * ؤ لات كدامك كون الليل)).

 

        وغير بعيد من هذا التصنيف التقريبي في حضور الثقافة العالمة في الشعر الحساني لفظا وفكرة وأسلوبا، نقدم أمثلة منه جامعة على نحو يتعذر معه حصرها في مجال محدد من مجالات مشاعر الإيمان بالله تعالى وقوة الارتباط بالقرآن الكريم:

 

        انطلاقا من مثل قول الله تعالى ((وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ))، وقوله (( إن ربك هو القوي العزيز))، وقوله ((إياك نعبد وإياك نستعين))، يقول المختار ولد الميداح، بلسان الأديب المبدع الواثق بالوهّاب الرزاق: (( رزق العبد البيه واعد * مول العون ؤ مول القوه * هو هون الزاد واعد * واللي واعد هك هو)).

       

        و من بعض فواتح  سور القرآن الكريم، ومن آية (( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )) ، ينطلق محمد ولد آدبه في دعائه بتناسق وانسياب عجيبين: (( بين الكاف اجعل حالي زين *والنون ابحرمت نون ؤ قاف * ماه ابتسياف ؤ هو عين * اليقين امرك دون انكاف * ما حاصل لخلاف ان بين * النون الى ردت والكاف )). ومن قول الحق تعالى: (( ادعوني استجب لكم )) ينطلق هذا الأديب الرباني القرآني في قوله: ((قولك  حق ؤ وعدك لذاك* صدق ؤ ذاك افلكتاب انجاب* وافلكتاب آمرت ابدعاك و وعدت  افلكتاب اب الايجاب)).

 

       ونجعل ثالث الأمثلة الأخيرة ختاما لهذا العرض بجزء من مطولة  لسيدي محمد ولد باب احمد ( ابن الكصري) أنشأها تفكرا  في خلق الله تعالى، وعملا بتعاليم القرآن الكريم، سالكا سبيل المنطق في وضع المقدمات واستخلاص النتائج على نحو ما يأتى به العلماء والمناطقة، كابن عاشر في مقدمة ((المرشد المعين ...))، والمقري في  ((إضاءة الدجنة ...))، وغيرهما... يتحدث ابن الكصري، في هذه المطولة البالغة مائة وأربعين مصراعا (تافلويت)، عن خلق الأحياء من إنسان وحيوان ونبات، و خلق الجمادات من سماء، وأرض، وجبال، وبحار، ومعادن، وغيرها...

     

       ونقتصر هنا على مقوله عن خلق الإنسان الذي يقدمه مطابقا لتقديم المقري في قوله في الإضاءة: (( ومن يقدم نفسه عند النظر * مؤلفا من القضايا ما حضر *  يقس بشكل بين الإنتاج * إذ خلقه من نطفة أمشاج))، و في بعض العبارات يعبر ابن  الكصري بذات العبارات العلمية الحديثة، كعبارة الغشاء الذي هو الاسم العلمي لغلاف البويضة عند التصاقها بجدار الرحم حيث بداية تكون الجنين، ثم يمضي في الحديث عن العظام، واللحم، والعصب، والدم، والروح، والعقل، في هذا الكائن العجيب ...!   يقول:

 

ولادم بعــــد الــــرب اهـــــــداه         للتـــوفيق ؤ خــــرص مبداه  

وانظــــر فامر تدبير اللــــــــــه         فالظاهـــــر من وافخـــــافيه  

يعـــــرف عن ذ تدبـــــــير الـــه         قـــادر مــــريد ؤعـــــلم بيه  

عــــــالم باللي رايـــــد حاشــــاه         من يجهـــل شي لاش اماسيه

ما دار افذ الكـــــــون امن اسماه         وارض وابحور وانــــواحيه  

واوســــاط كد اظفر وســـــــــاه          ماه عـــــــالم باللي يـــــزيه  

والحكمه فــــــيه امنين انشـــــاه          ؤ فالي يوخظ زاد ؤ ينفــــيه

 ؤ تدبـــــــــــير المخلوق ارعاه          من مزال اغشــــــاه امغشيه  

صنع من ذاك الشــــــــــي وساه          بذكــــور من وابناثـــــــــيه  

ؤ كـــل امل الاشــــــخاص ابناه          من تشــتات اجناس امخاويه

 جنس اعظــــــــام امسيس كساه          وابجـــــنس الحم لين كاسيه  

ؤ جنس اعصـــــب شدد بيه اللـه         العظام ؤ كل اعظــــــــم فيه

 قدرل تركــــــــــــــــيب ؤ قواه          زاد ابمــــــخ اتم امــــلوميه  

والدم افــــــــذ كامل جـــــــــراه          مايســــــكن فالجرم امجريه  

ؤ مــــــن عظيم اص قدرت كاع          مالك ذ الملك ابلا نــــــزاع

 ؤ لاهي تركيك لاخـــــــــــتراع          ذ الكون امن العــــدم ناشيه

 تركــــــــــيب للروح ؤ تصراع          الروح افـــذ الهيكل تحــييه

 مـــــا تور ذات ؤ لا ســــــــماع          حس ؤ لا حس انحسـت بيه  

ؤ هــــــي موجوده شـــــــيخ كاع          ماهي من شـــي لعقل ينفيه

 واخبرها ظاهـــــــــــــر بالتكياع          ؤ دارك زاد امــــــل  خليه  

ؤ ذ الجــــــرم اللي عمدت مبـــناه         الحم واعصب واعظام ابناه

اللعقـــــــــــــــــل واحن خرصناه         غــــــــلبتن حالت  لعقل فيه  

لعظــــــم ما يعقل شــــــي وامعاه         لعصب ما يعقــل  شي يزيه

 و اللحمه ما تعقل واللــــــــــــــه          واس لعقل فالشخص  ؤ بيه  

عــــــــــرف الشخص ذ اللي طاه          لعقل قــــادر حك  ؤ عاطيه

بل اظـــــــــواك ؤ نطق ؤ ممشاه          ابرجلين اصنعـــهم  وايديه

اصنعهم ل هــــــــــــــــــاذ وساه           ســــــابك يخلك مكرم  بيه  

وامــــــــــــنين اخلك ماج متكول          اعـــــل راص عن  مغفول

كيفن يخلك يخلك مجــــــــــــعول          خلق اعـــــــليه  الين اربيه

 متمــــــونك فاللطف المســــدول          مقهـــــورال  مد تبغــــــيه

ماه بخــــــــــــــزين اكبل مفعول          الا قهر اللـــــــــــه اماسيه

ؤ كـــــــــرم بدرار البن مصكول          ما يتوخر عن  وقـت امجيه

 ؤ لا يعجل محــــــــــــال الا كول        متمــــيعد وايـــــــاه  احانيه

حاصــــــــــــــل فامه فبلد مسبول         مكـــــــدود اعل فم  راضيه

ماه مقــــــــــــــــلوك ؤ لا محلول        حـــل اعود اببـــــــج  يوذيه

الا كــــــــــــد المني مبـــــــــذول        واعـــــــــل نفع بيه  اسهديه

ؤوســــــــــــــــاه الكدام اعل مول        الرعيه وايــــــــاك  اتكـــيه

متمــــــــــــــونك فالعبون ؤ طول         ســـــــقر كامل هي  راعيه

واتم اف لطــــــف اليــــــن اتحول        احــــــوال واللطف  اراريه

 

    والسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

 

                                                                                   محفوظ ولد الفتى

     

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122