قهوة أنفاس مع الأستاذ محمدن ولد إشدو

2013-03-10 19:09:00

القهوة هذه المرة مع رجل قانون معروف تولى مهمة المحاماة في كثير من الملفات الحساسة والشائكة، ومناضل تاريخي كان في طليعة الشباب الموريتاني المنافح من أجل استكمال سيادة موريتانيا واستقلالها

.

والساعين إلى تخلصها من كل قيود التبعية التي كانت ترسف فيها، وذلك في سبيعينيات القرن المنصرم من خلال حزب الكادحين الموريتانيين الذي يعتبر ضيفنا أحد مؤسسيه، وهو أيضا شاعر حمّل الكلمة كل اهتماماته القانونية والنضالية وأودعها آلام وآمال الشعب الذي حلم ذات يوم بانعتاقه ومساواته.

وقد تناولت هذه القهوة قضايا عديدة بينها الراهن والتاريخي..

حول قضية بوعمات

لست خير من يتحدث في هذا الموضوع، من وجهة نظر أولئك الذين يستخدمون الإعلام الشريف في سبيل الهوى وإشعال الفتنة والوقيعة بين الناس. فأنا لن أبالغ ولن أحرض. فمحمد ولد بوعماتو صديقي، وهو رجل أعمال ناجح له أيادٍ بيضاء على موريتانيا؛ خاصة من خلال مؤسسته الخيرية العتيدة، ومساندته ودعمه لحركة الإصلاح التي عرفتها البلاد فجر يوم 3 أغسطس الأغر سنة 05. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فأنا ممن يؤيد المسار الوطني الإصلاحي الذي يقوده الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وهو صديقي أيضا، وقد استقبلني في منزله وخدمني بنفسه.

وأنتم تعلمون أن هناك من يعمل على إشعال الفتنة بين الرجلين إضرارا بهما وبموريتانيا، رغم أن التناقضات بينهما ليست عدائية، ومن واجبنا تلطيفها، ولو كانت عدائية، والعمل على حلها وديا، وصيانة الوحدة بينهما، نظرا لمكانتهما، وقوة وكثرة ما يجمعهما، ولما يقدمانه من منافع للناس.

ولكي أوضح هذه الفكرة أكثر، أذكر بأنني عندما تحدثت في بحث سابق عنوانه "الانقلاب الدائم على الشعب" عن عقبة الفساد والمفسدين المتحكمين في السلطة والمال؛ وقلت إنهم يتكيفون اليوم ليظلوا مسيطرين على الدولة، ويعششون في صفوف كل من الموالاة والمعارضة، ويعملون من الموقعين لصالح هدفهم الدائم الذي هو الجمع بين الأختين (السلطة والمال) وإلغاء الشعب. تساءلت في الختام: هل هي دعوة للثورة على الفساد والاستبداد؟ وأجبت: "كلا! بل هي دعوة إلى الإصلاح والعدل" وإعطاء كل ذي حق حقه. وفي إطار هذا الطرح الإصلاحي المتسامح حُلّتْ - ويجب أن تحل- التناقضات مع رأس المال الوطني عموما، واليمين منه خصوصا. والسيد محمد ولد بو عماتو رجل أعمال وطني مستنير دعم الإصلاح واتجه إلى العمل الخيري باكرا. وهو أولى بالتفهم والرعاية.

ما هو سبب مساندة المعارض الأزلي للنظام القائم؟

أولا: أنا لا أساند النظام القائم، وإنما أساند السلطة الوطنية القائمة المتمردة على النظام الذي كان - وما يزال- قائما. وسبب مساندتي للسلطة الوطنية القائمة يتلخص في أمرين:

أولهما: طبيعتي. فأنا لست ممن يلقون القياد لغيرهم، أو يتّبعون عفوية الناس؛ وغني - بفضل الله- عما في أيدي النظام والناس. ووقوفي ضد التيار خير شاهد على ذلك. لذا أمارس السياسة إحقاقا لحقوق الناس ومجد الوطن، كما الشيخ محمد عبده الذي يقول:

مجدي بمجد بلادي قمت أطلـــبه وشيمة الحر تأبى خفض أهليه

أحـاول الصّعبَ فـي سعـيي فأُدرِكه ولا حسـامٌ ولا رمحٌ أروِّيــــه

وإنمـا الفكر يُغْني نفسَ صـاحـبـه عـن الجـيـوش إذا صحَّت مَبـاديه.

وثانيهما: أن السلطة الوطنية القائمة هي التي تساندني أنا، ولست أنا من يساند هذه السلطة. إنها تقوم بإنجاز بعض ما كنت أنادي به منذ 50 سنة. فهي: تناهض الفساد حسب طاقتها وطبيعتها، وتعيد تأسيس الدولة، وتصون استقلال وكرامة وأمن الوطن، وتعتني بالشعب، وتقيم البنى التحتية.. الخ. فهل من العدل أو العقل أن أعود أدراجي في هذا العمر، وأتخلى عما آمنت به وعملت من أجله عدة عقود، لأن سلطة ما، قد لا تتوفر فيها جميع المعايير النظرية المطلوبة، والكمال لله، هي التي باشرت إنجازه، وسارت ـ ولو حبوا ـ في نفس الطريق الذي ظل موحشا ومهجورا زمنا طويلا؟ قد يفعل ذلك غيري غباء، أو جمودا، أو تقليدا، أو ردة. أما أنا فلا يقعقع لي بالشنان.

وإن تعجبوا من "مساندتي" لسلطة قامت عن طريق انقلاب، ففي الفقرات التالية من مقال "رسالة مفتوحة إلى فجر يوم أغر" (يوم 3/8/05) التي تبوأت غلاف كتاب "حتى لا نركع مرة أخرى" الجواب الشافي:

"... أيها الأمل الموريتاني الوليد.. جئت متأخرا جدا.. ولكنك أتيت! وكيف أتيت؟

ـ "انقلاب عسكري" و"مجلس عسكري"؟

ما أبغضها كلمات عند الله، وأبعدها عن "الديمقراطية" و"الشرعية الدستورية"! وما أسوأ الوضع الذي ينتجها ويجعلها مستساغة، وما أشد سواد حصيلتها ـ غالبا ـ في حياة الشعوب والأوطان!

ولكن، أمن العدل أو العقل أن لا نبالي بمقدمك الميمون؟ أو أن نعرض عنك بردا وسلاما عصف بالطاغوت، وشرع بابا - أوصِدَ عقودا- عجزت كل القوى والوسائل والأساليب السلمية وغير السلمية عن فتحه؟

أيها الفجر الجديد،

من تعاليم الحياة أن الانقلابات شتى. منها انقلاب موبوتو في الكونغو، وبوكاسا في وسط إفريقيا، وولد محمد السالك ومعاوية في موريتانيا.. ومنها انقلاب عبد الناصر في مصر، وكيتانو في البرتغال، وسوار الذهب في السودان، وتوماني توري في مالي.. الصنف الأول كان نقمة ووبالا على الشعوب ودمارا وخرابا لما بنته البلدان. والنوع الثاني حقق بعضه التحرر من الديكتاتورية، وجلاء القواعد الأجنبية، وآل البعض إلى إرساء الديمقراطية والتناوب السلمي، وعودة الجيش إلى ثكناته".

وقد كان انقلابا أغسطس من النوع الثاني!

ولا يعني هذا طبعا أن جميع أهداف الوطن قد تحققت بعصا سحرية؛ بل يعني أن يد الإصلاح بدأت تربت على كواهلنا وتمسح بعض جراحنا. لقد استفاد الشعب مثلا: قطعة الأرض والماء والنور والخبز المدعوم، وعناية نسبية في مجالات الصحة والتعليم والإنتاج والبنى التحتية، وإطلاق كافة الحريات الديمقراطية، وطرد إسرائيل صاغرة من بلادنا. تلك الإسرائيل التي عشنا في ظل علاقتنا المخزية معها عهدا من الهوان عمَر فيه العلماء والأئمة والأحرار السجونَ، وعمَرت الشرطة المساجدَ، وصودرت الصحف وحلت الأحزاب، وقمع الشعب وجوع.. الخ.

إن بلادنا لا تعيش أزمة ثورية أو مدا ثوريا، بل ظروفا مواتية للإصلاح فقط؛ والقرارات الثورية السحرية - كما هو معلوم- لا يمكن أن تنجبها فترات الجزر. وقد كان بالإمكان تحقيق ما هو أكثر في هذه الحقبة الإصلاحية لو تكاتفت كل الجهود دون هدر، وتم التخلص من قيود الفساد وتأثير المفسدين في صفوف النخبة، وجعل هم الوطن والشعب فوق كل الهموم!

"نحن في أمس الحاجة إلى الديمقراطية. ولكن الديمقراطية التي نحتاجها، هي الديمقراطية الاجتماعية الصحيحة، التي تكسر قيود القرون، وتفتح العيون، وترفع الجبين، وتشبع البطون. أما ديمقراطية النفاق، والشقاق، واختلاس الأرزاق، ولي الأعناق، فلتذهب إلى غير رجعة مع المبشرين بها والمتبجحين بانتصارها الوهمي على أيديهم في عهدهم الأسوأ البغيض!" (أزمة الحكم في موريتانيا، ص 86).

وثانيا: أنا لست معارضا أزليا كما تصفون. ولست جامدا ولا جاحدا. وللأمانة، أذكركم بأني ساندت حركة 3 أغشت 2005 ويمكن الرجوع إلى ما كتبته في ذلك. كما ساندت نظام الرئيس المختار ولد داداه - رحمه الله- في سنواته الأخيرة؛ سنوات الإصلاح والوحدة الوطنية، حول توطيد المكاسب والسياسات الوطنية. وساندت كذلك انقلاب 6 ابريل 1979 وإن لم يدم طويلا للأسف بسبب "اختفاء" قائده الشجاع الرئيس أحمد ولد بوسيف الذي سعى إلى إنهاء انقلاب يوليو وإعادة موريتانيا إلى الصراط الوطني المستقيم. وتعاطفت مع قادة حركة 16 مارس 81 الأبطال ورثيتهم لنبل هدف إنقاذنا يومئذ من سيطرة واحتقار وإذلال العصابات العشائرية التابعة لبوليزاريو. وأيدت حركة 12/12 قبل أن يتم اختطافها وتدجين قادتها من قبل اليمين.

هذه هي أسبابي.

أما ما ذكرتم من قول بعضهم بأن أسباب مساندتي نفعية، فلا غرو ولا عجب أن يدعي المرء على غيره ما يعرفه هو في نفسه. ولكريم علمكم، فلا علاقة لي البتة بشركة الألبان التي ذكرتم أو بأي شركة أخرى! ولدي في ظل هذه السلطة حسابان أحدهما مدين منذ أزيد من سنة والآخر يتأرجح بين الحمرة والبياض. ولم أستفد قط أية قطعة أرضية أو رخصة صيد أو غيرها من الدولة خلال حياتي. ولم أحصل من الدولة والمؤسسات التابعة لها خلال 27 سنة من ممارسة مهنة المحاماة إلا على عقد واحد متواضع جدا، عمّر نحو سنتين. وقد تلقت تلك المؤسسة أمرا بقطعه، وقطعته منذ سنة تقريبا. وقد تم ذلك في إطار "إصلاح" نظام تعاقد الدولة ومؤسساتها مع المحامين، ولعل قطع العقد الوحيد مع مكتبي هو الإصلاح الوحيد الذي أنجز، لأن أغلبية المستفيدين التقليديين استرجعوا امتيازاتهم مباشرة! وقد عهّدني وبعض زملائي وزير المالية الأسبق في قضيتين أساسيتين دافعنا فيهما عن الدولة ممثلة في وزارة المالية. ولكننا لم نستطع إلى حد الآن الحصول على أوقية واحدة من أتعابنا رغم ما بذلناه من جهد في حدود اللياقة.

وتلك هي "المنفعة" التي يتحدثون عنها!

وخلاصة القول أني حر: لا أعارض من أجل المعارضة، ولا أساند من أجل المنفعة. وإنما أعارض من أجل موريتانيا وأساند من أجل موريتانيا. ساندت من ساندتهم في سبيلها، وعارضت من عارضتهم من أجلها. وأستخدم في ذلك "سلاح الموقف" حسب تعبير الرئيس سليم الحص. ولا أنتمي إلى أي حزب، وإن كان عدم انتمائي لأي حزب قد جعل مني حزبا معارضا لجل الأحزاب القائمة!

ما هي طبيعة انقلاب العاشر من يوليو 1978؟

ما فائدة البحث والتحليل والكتابة إن لم تَنفُذ إلى جوهر الأشياء وتستَجْلِ كنهها وتأت بجديد؟ صورة غلاف هذا الكتاب (أزمة الحكم في موريتانيا) الذي أقدمه إليكم، ترمز إلى نتائج التحليل الذي قادني إلى معرفة وتحديد طبيعة ذلك الحدث، فأوضحت بجلاء أن: "من يستقرئ الأحداث بترو وعمق سيستنتج بسهولة أن ما جرى في 10 من يوليو 1978 لم يكن - في واقع الأمر- انقلابا عسكريا بالمعنى التقليدي؛ أيْ عملا عسكريا يطوي النظامَ المدني القائم بحسناتـه وسيئاتـه، ويقيم مكانـه نظاما عسكريا يحكم فيه الجيش، مثل ما جرى في بعض البلدان العربية كمصر الضباط الأحرار، وجزائر بومدين وليبيا الفاتح.. بل كان - في جوهره - انقلابا "مدنيا" قام بـه، ضد مكاسب وخيارات وقيم الشعب الموريتاني، يمين الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال الداخلي؛ مستغلا الدعم الخارجي القوي ومناخ الحرب، ومستخدما عناصر على شاكلته وموالية له في الجيش، وأخرى ضالعة في الفضائح المالية التي ظهرت خلال الحرب، وكان التستر عليها من بين دوافع الانقلاب" (أزمة الحكم ص 204).

وجوابا على سؤالكم عما إذا كان البعثيون شاركوا في ذلك الانقلاب؟ أقول لكم: نعم. لقد شارك إخوتنا البعثيون وغيرهم من الطوائف اليسارية في الانقلاب وعُين منهم وزير أو وزراء، وكان من بين عناصرهم المؤثرة والتي لعبت دورا أساسيا فيه الرائد جدو ولد السالك رحمه الله. ولكن اليمين الذي اختطف السلطة وسيطر على الجيش يوم العاشر يوليو وحقق الجمع بين الأختين، سرعان ما صفى رفاق طريقه في أقل من سنة؛ وانفرد بالسلطة. فظلوا يتصارعون على استمالة مراكز النفوذ العسكرية بغية استرجاع مكانتهم. وقد نجحوا في فترة ما في استمالة ولد هيدالة والدخول معه في لجان التطوع والهياكل يوم كنا في سجونه ومنافيه، إلا أنه ما لبث أن "غدر" بهم حسب ما سجلته أدبيات بعضهم.

وإن جميع الانقلابات والحركات العسكرية التي أعقبت 10 يوليو 1978 لتدخل في إطار محاولات الجيش المتكررة وإصراره على استرجاع السيطرة على زمام أمره المختطف من طرف اليمين المتآمر المتواطئ: 6 إبريل 1979، 16 مارس 1981، 12/12/1984، 8 يونيو 03، و3 أغسطس 05 و 6 أغسطس 08! وإن كانت تتأثر بدرجات متفاوتة بغليان واستياء الشارع، وصراع الطوائف على النفوذ.

وقد برهن هذا الجيش الذي استعاد صحته، وملك زمام أمره اليوم، على أنه ليس قادرا على تحقيق النصر وحماية الوطن فحسب، بل وقادر كذلك على حماية الدولة، وعلى أنه جيش جمهوري وفِيُُّ يستحق التحية والاحترام. وذلك حين تجاهل النداءات الساذجة المتكررة التي وجهت إليه كي ينقلب على الشرعية والدستور، وتعامل بحزم وإخلاص مع الأوضاع الطارئة إبان الحادث الأليم الذي تعرض له رئيس الجمهورية في شهر أكتوبر الماضي.

هل من ربيع عربي في موريتانيا؟

"الربيع العربي" شعار كاذب، ومفهوم معطى لا يطابق واقع الأحداث التي يمر بها العرب. لقد كانت ثورات تونس ومصر واليمن والبحرين وحتى سوريا في أصلها ثورات كرامة قامت بها شعوب تلك الدول ثأرا لكرامتها المهدورة وتحقيقا لأهدافها الكبرى في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم والوحدة وتحرير فلسطين.. ولكنها خطفت وخربت وحرفت من طرف الغرب وأعوانه. ذلك الغرب الذي يستعمر العرب ويسعى لإبقائهم متخلفين أذلاء وممزقين تحت قبضته. وقد شرحت ذلك بتفصيل في مقال بعنوان "العرب اليوم".

وبخصوص موريتانيا، فإنها ثارت لكرامتها يوم كسرت حركة الشعب والجيش أضعف حلقات نظام الهيمنة الأمريكي الصهيوني في 3 أغسطس 05 وعدلت الدستور ونقلت السلطة وأرست المؤسسات بصورة سلسة، وأخرجت إسرائيل صاغرة لأول مرة من دولة عربية كانت قد استحوذت عليها. ومن هنا بدأ زحف الشعوب العربية المهدورة بطرق وأشكال تختلف باختلاف ظروفها.

وهناك رأي آخر مخالف للحقيقة تتبناه بعض القوى السياسية وتبني على أساسه سياسة "الرحيل" خلافا لجميع أبجديات علم السياسة. ويعتقد هذا الرأي أن لا جديد في موريتانيا، وأن الظروف التي أنجبت ثورة الكرامة في البلدان العربية الثائرة ما تزال قائمة فيها بما في ذلك "سيطرة الجيش على السلطة". وبالتالي، فإن أمواج الربيع العربي قادمة إليها لا محالة!

ولعل لهذا الرأي علاقة ما بمحاولات بعض المفسدين الْكَرَّة والسيطرة من جديد على مقاليد الحكم. فنظام الفساد ما يزال معششا في أكثر من موقع ومِفْصَل، ويقود مقاومة لا هوادة فيها، يستخدم فيها أسلحته الظاهرة والباطنة، والصلبة والناعمة. وفي مقدمتها الإرجاف والتلفيق والتضليل، وخلط الأوراق، والتثبيط والتهييج والإسقاط.. الخ. إن الشعب يعيش فترة جزر سمتها الأساسية غياب الوعي والتنظيم والنهوض. وهذا أمر طبيعي في حياة أمة عاشت تراكمات الذل والفقر والجهل والإهانة طيلة 40 سنة. ولم تعطها الأحزاب والمنظمات القائمة اليوم ثقافة بديلة، ولم تنظمها وترفعها من العفوية والجمود إلى الوعي. ومع ذلك يدعي بعضهم أن سنة 2012 كانت سنة النضال الجماهيري بامتياز! إن الجماهير لا تطلق على خمسين ولا على مائة ولا على ألف أو حتى عشرة آلاف. فالحراك الذي نشاهده هو حراك جزئي وفئوي ومبتسر أو مفتعل في بعض أوجهه، ولا يصنع تاريخا سياسيا. وإذا كان من واجب الشباب أن يدافع عن مصالحه ومصالح بلاده ويقود معارك البناء والتغيير، فإن من واجبه كذلك أن يفتح عيونه جيدا ويحذر من الاستغلال والاستخدام في مشاريع رجعية واستعمارية مشبوهة.

لقد تلقيت في أوج "الربيع" (فبراير 2011) رسالة من "أحرار موريتانيا" يطالبونني فيها بـ"التحرك سلميا لتغيير النظام الجاثم على صدور الموريتانيين وفك قبضة الجيش عن السلطة الموريتانية منذ 1978 وتأسيس دولة ديمقراطية مدنية لا مكان فيها للظلم أو الرشوة أو القبلية". فرددت عليهم برسالة شرحت لهم فيها رأيي، ودعوتهم إلى تبادل الآراء، وحذرتهم من الوقوع في فخ المندسين والمنافقين. ولكنهم تجاهلوا ذلك وضربوا لي موعدا في ساحة "بلوكات"!

وقد جاء في رسالتي إلى "أحرار موريتانيا" ما يلي:

• أعتقد ـ من حيث تحليل الأوضاع الموريتانية الراهنة ـ أن السلطة ليست اليوم بيد الجيش الموريتاني، ولم تكن بيده في الأمس إلا في أوقات نادرة، وخاصة في المرحلة التي حددتموها بالذات 1978. ذلك أن الانقلاب الذي جرى آنذاك لم يكن انقلابا عسكريا؛ بل كان انقلابا مدنيا دبره فريق الأعمال الناشئ المنحدر من رحم العشائر، والمرتبط بالاستعمار الغربي، مستغلا ظروف حرب الصحراء وعلاقات بعضه الأسرية والجهوية بأفراد قلائل من قادة الجيش، ضد إرادة الجيش وضد الاتجاه الوطني الإصلاحي الذي كان مهيمنا في البلاد. وقد حقق المنقلبون يومئذ هدفين أساسيين هما: السيطرة على الجيش واختطافه وامتلاكه أداة تحمي نظامهم الفاسد، والجمع بين الأختين: السلطة والثروة. ذلك الجمع الذي ظل الرئيس المرحوم المختار ولد داداه يرفضه ويقمعه حتى آخر يوم من عهده. وقد ظلت جميع الانقلابات العسكرية والمحاولات الانقلابية التي عرفتها البلاد تضع على رأس أولوياتها استرجاع الجيش لزمام أمره، وفك الارتباط بين السلطة والثروة. وكانت آخرة نظام 10 يوليو 1978 "العسكري" بجميع طبعاته أن فكك وحطم الجيش، فأصبح في ظله اسما بلا مسمى.

• أن الذي بيده السلطة اليوم، وبالدرجة الأولى، ليس الجيش بل الرئيس محمد ولد عبد العزيز وصحبه المتكئين على شرعية حركتي 3/8/05 و6/8/08، وانتخابات 09 التي جرت في ظروف حسنة في ظل حكومة ائتلافية ووزير داخلية من المعارضة، ومحاربة الفساد والتهميش، وغسل عار العلاقات المذلة الآثمة مع إسرائيل والخضوع لأمريكا والانتماء لمنظومتها. وقد حققوا إنجازات مهمة لامست شغاف قلوب الموريتانيين؛ كما أطلقوا الحريات الأساسية: حرية التعبير والتجمع والتظاهر وحرية التنظيم، ورأبوا صدع الوحدة الوطنية، وأعادوا بناء الجيش وتسليحه، وبسطوا يد الدولة على كافة تراب الوطن.

• ومع ذلك، فلا يشكل حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز وصحبه فترة ذهبية وعهدا نموذجيا صالحا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل هو مجرد بداية حسنة، وثغرة في دفاعات الفساد المعشش منذ ثلاثين سنة، وخروج على نظام الحزب الجمهوري الذي ما يزال قائما بأسسه وأساليبه ومؤسساته ورجاله.

• وفي وضع كهذا، ما هي مهمة أحرار موريتانيا؟ أهي التحرك في مواجهة عدو وهمي هو "فك قبضة الجيش"؟ الأمر الذي يخدم ويثلج صدر النظام الفاسد المخيم وحلفائه: الإرهاب وإسرائيل وأمريكا! أم إن عليهم التحرك العاجل مستغلين كافة ميادين الحرية المتاحة في اتجاه آخر هو: خلق قطب سياسي وطني معارض جديد يراقب ويحاسب السلطة الوطنية الوليدة، ويسعى إلى تعزيز المكاسب الوطنية، ويعجل تفكيك وكنس نظام الفساد الذي يتكيف الآن ويستخدم ألف وسيلة ووسيلة من أجل البقاء والالتفاف على روح حركة الإصلاح التي نشأت مع 3/8/05 وانبعثت من رمادها في 6/8/08 بعد أن تم اغتيالها ووأدها، ويخلق الشروط الملائمة لإرساء دولة المؤسسات الديمقراطية وحكم القانون بدل دولة الفرد أو الشلة؟

• وإذا لم يكن هذا الطرح واضحا أو مقنعا في نظركم، وفضلتم المضي في تحرككم الهادف إلى مواجهة "فك قبضة الجيش" بدل التعاون مع السلطة القائمة والجيش على فك قبضة نظام الفساد وحلفائه. فإن من واجبكم ـ بادئ ذي بدء ـ أن تضعوا خطا فاصلا وواضحا وصريحا بين تحرككم بصفتكم أحرارا وطنيين وبين "تحرك" أوساط سياسية واجتماعية (غير بعيدة من بعضكم اجتماعيا) ناشطة في سبيل ترميم وإعادة إنتاج ما اضمحل من نظام الفساد، ومرتبطة ومدعومة من لدن قوى عدوة تعمل على خراب موريتانيا هي أساسا تحالف القاعدة في المغرب العربي وأمريكا وإسرائيل".

ذلك هو رأيي في الوضع الراهن، وتلك كانت - وما تزال- رسالتي إلى أحرار موريتانيا!

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122