من ذكريات السينكال .. شخصيات لا تنسى: أحمد فال ولد أبوه

2015-06-15 06:09:00

روصو اليوم- في دكار المدينة الجميلة .. قضيت فترة من طفولتي .. لعبت في شوارعها وأزقتها صحبة صديقي وتربي إبراهيم دندرا (هاجر منتصف السبعينيات الي فرنسا حيث
يقيم والده وتوطن هناك .. ابن أخ صديق والدي إبراهيم سيسي رحمهم الله) كنا نقضي الوقت في تتبع شوارع انتلين .. البطوار .. جل طبي .. كان لنا أصدقاء كثر .. وكانت هذه الأحياء أيامها تعج بالسينكاليين من أصول موريتانية .

.


في حي البطوار شارع 6 تقاطع شارع 5 يسكن احد الأقارب من مشاهير ان لم يكن أشهر البيظان في السينكال .. اسمه بلال فال .. كان شخصية محورية ملأت شهرتها الآفاق .. بيته جميل وكبير ومفتوح للجميع .. تتدفق الخلائق إليه فرادى وجماعات .. ما بين زائر ومسلم أو صاحب حاجة أو وساطة أو ضيف عادي .. كل هؤلاء يجد عند بلال الأذن الصاغية والوقت المطلوب .. كانت عنده بنت لا تقل عنه شهرة وجودا وكرما .. الغريب في بلال هذا - وهو أمر يدعو للعجب علي الأقل عند البعض - أنه رغم الشهرة والهالة (تعتبره السينكال الممثل الوحيد الشرعي للبيظان ومدير إذاعة البيظان افرجو سينكال ) - اللتين يحظي بهما، في غاية الانطواء علي النفس والتواضع والبساطة .. لا يكاد يعرف من هو في بيته.

كان لوالدي عنده منزلة خاصة واحترام وتقدير .. كم حل به من مشكلة وكم كشف به من كرب وكم رفع به من ظلم ورد به من حق وفتح به من مجال لمختلف البشر من مختلف المشارب فجزاه الله خيرا ولقاه السرور .. وكان والدي بالمقابل يقدر هذا ويواسيه بما يقابله ..

كان عندي يوم في الأسبوع يطلب مني الوالد زيارة أهل بلال فال .. كان بلال يستقبلني بحفاوة وبشر .. وكانت ابنته حنه رحمها الله تبالغ في البشاشة والترحيب .. سوكو .. سوكو .. وكانت تشغل يومها بالعناية بي جزاها الله خيرا ..

في الطريق الي هذا البيت كنت أمر - طبعا حسب تعليمات الوالد - على احد أعيان الجماعة في متجره المطل على شارع 5 تقاطع 6 هو احمد فال ول ابوه ( ابوه كنية والده محمذن ول محمود فال .. الذي لهج الشعراء بالثناء عليه

كان والدي يؤكد علي في المرور والسلام والمجالسة .. وكان يقول : هذا فتانا .. هذا فتانا .. وكان يجله ويقدره .

وقد تبينت بسرعة قصد الوالد بالمجالسة .. فبالإضافة الي صلة الرحم ، احمد فال هذا من الأدباء المتمكنين .. مشارك في الفقه .. مطالع لكل ما يتعلق بالعرب وأشعارهم وأيامهم وقصصهم .

لم يكن متجر احمد فال المتجر العادي .. كان ناديا أدبيا أو إن شئت قل ثقافيا .. تثار فيه جميع فنون المعارف وان كان الأدب يستحوذ علي النصيب الأكبر ..

اذكر مرة كان مروري عليه رحمه الله قبل الزوال بقليل .. كان عنده زوار من أقرانه وكانوا مستعجلين بدعوي أنهم يحاولون المرور علي جميع الدكاكين للسلام .. كان اليوم يوم أحد وهو من أيام الإجازة في السينكال .. وهي مناسبة يستغلها التجار للسلام والمعايدة فيما بينهم وكذلك صلة الرحم . )كان المجتمع إبانها على درجة عالية من التماسك والتراحم والمحافظة علي القيم الإسلامية النبيلة(

بالغ الجماعة في محاولة التخلص وبالغ هو علي الطرف الآخر يترجاهم الجلوس والانتظار .. متبادلين بعض النكت والمزاح الطريف .. وسأله احدهم ما ذا ينتظرنا لو جلسنا .. ؟ فرد عليه بكلام ملؤه الترغيب وما لبث أن قال ارتجالا :

وان شئتم أقريتكم كل مطعم .. واسقيتكم من غير من ولا بخل

وان شئتم حدثتكم كل ملحة .. بها صرف من في الشغل عن كل ذي شغل

وان شئتم الأشعار ها هي عندنا .. قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

هذا ما بقي في الذاكرة منها ولا ادري هل تكسرت في الذاكرة أم بقيت على سلامتها ...

استحسن القوم الأبيات وعلقوا عليها وكانت عاملا قويا في إجبارهم علي الجلوس دون قصد أو عن قصد علي التراخي .

كانت هذه الأبيات مناسبة لإثارة عدة مواضيع أدبية منها الارتجال ومنها عزوف البعض عن قرض الشعر وان كانت عنده الآلة .

مواضيع كثيرة كانت محل بحث وتدارس في ذلك المجلس لم تساعد الذاكرة مع الأسف في سرد نماذج منها .. كل ما اذكره أنها كانت شيقة وأنها كانت تستهويني حتي أنني كنت انتظر يوم الأحد بشغف وشوق .

كانت الجالية في السينكال تمارس حياتها بنفس الأسلوب الذي تجري به حياتها في الوطن .. كان التعلم حاضرا في ممارستهم الحياتية اليومية .. لم يكن العمل والبحث عن الكسب الشغل الشاغل بل كانا جانبا من الحياة .. كانت المتاجر أو علي الاصح الذي اعرفه منها أو لي به علاقة، على ارتباط دائم بأحد العلماء أو قل الفقهاء يأتيهم في نهاية دوامهم أو في أوقات فراغ لديهم معروفة يدرسهم أو يدرس بعضهم .. وأظن أنها منتشرة بين الدكاكين ..

اذكر المرحوم ول متالي من خريجي محظرة لفريوه .. كان له تعاقد مع بعض هذه المتاجر .

كان في حي انتلين أيضا احد خريجي هذه المحظرة هو احمد ول علي .. له إلمام واسع باللغة وفنيات تدريسها خصوصا الدواوين الستة .. يرتاده طلبة العلم .. اخذ عليه أخواي الشيخ احمد وبليل المعلقات .

حي انتلين هذا كان العلامة اباه ول عبد الله إمام محظرة النباغية يتخذ منه محل إقامة في داكار .. أيامها كان في مقتبل العمر منتصف الستينيات له جلال واضح وصيت علمي متصاعد .. وبما أن والدي كانت له علاقات واسعة وخصوصا مع أهل الفضل كانت تربطه به علاقة .. لذلك اخذ عنه أخواي بعض القصائد وأبواب من اللامية .

إذن كان الموريتانيون أو علي الأصح أجيالهم السابقة لا يفارقهم اللوح أينما حلوا وأينما ارتحلوا .

ذات مرة مررت علي المرحوم احمد فال كعادتي الأسبوعية .. وجدت كما عهدت مسكن المتجر مليئا بالرجال يتدارسون قول الكفاف : تنبيه غافل لما لو انتبه .. لزمه من الأمور الواجبه

كان احمد فال يشرح باستفاضة وتحرير مع إيراد بعض الانظام لا ادري هل هي طرر أم شواهد أم أنظام فقهية قائمة بذاتها .. لا أتذكر شيئا من تلك الانظام ربما - وهذا لا يعني أنني افهم في الأدب أو أتذوقه - لا يستهويني في ذلك المجلس غير جانبه الأدبي .

بعد الدرس الفقهي مال الحديث تلقائيا إلي الشعر والنحو والصرف وقصص العرب وأيامهم .. كانت استطرادات احمد فال الشعرية كثيرة وخصوصا من شعر الأقدمين ..

من بين تلك الاستطرادات قصيدة العلامة احمد ول جدو : طبعا بدون ترتيب لأنها ضاعت من الذاكرة بسبب الصغر يومها والبعد الزمني الآن :

بأعظمها جاءوا لأعظم هودج .. عليه سنام كالمصاد مخيم

...

أشارت بطرف العين نحوي وودعت .. ولاح لنا من سجفة الخدر معصم

فلما تيقنت التفرق أسبلت .. مدامع عيني تستهل وتسجم

وظلت حميا الشوق في داخل الحشا .. مخامرة نارا تأز وتضرم

...

أجوب بها فيفا مجاهيل لم يطأ.. نواحيها من هولها قط منسم

مجاهيل ارض ذات أسد مخوفة .. وليس بها إلا الصدى متكلم

هذا ما تذكرت وهي طويلة وجميلة .

استطرادات تنبئ أن للرجل خزانا تراثيا يتدفق ..

وسأله احد أصدقائه لماذا لا تقرض الشعر .. ؟ كان رده بطريقته الرائعة .. وهي التزامه دائما الأريحية في الحديث والطرافة .. وعدم المباشرة في الجواب في مسائل كهذه .. مما يعطي مجلسه جاذبية ورونقا تجعله دائما عامرا .. أضف الي ذلك أن الرجل من الأسخياء وهي سجية توارثها أبا عن جد ..

كان الجانب الجدي من رده : أن تملك ناصية الآلة لا يعني تملك ناصية الصنعة وعليه لا يجعل المرء شاعرا .

من ناحية أخري الشعر هواية أولا ثم موهبة ثم ممارسة ثم بيئة .. وبما أن الشاعر قد لا يسيطر على عواطفه وهواجسه وانفعالاته النفسية يختار الكثير الابتعاد عن قرضه والاكتفاء بتعاطيه علي وجه الرواية واخذ الحكم والأخلاق والمثل التي خلدها وانشد قول القائل :

ولولا خصال سنها الشعر ما دري .. بغاة العلا من أين تؤتى المكارم .

هذا ما ربانا عليه ونصحنا به السلف من أعيان مجتمعنا من من تؤخذ منه الحكمة والصواب .. لذلك لست شاعرا وليس من هواياتي أن أكون كذلك .. ونصائح السلف تبقى دائما محل تقدير .

وبادره احدهم لكنك كثيرا ما ترتجل البيت أو البيتين أو الثلاثة .. ؟ فقال : هذا على سبيل المداعبة .. لا من اجل الشعر في حد ذاته .. أحيانا يكون الموقف أحوج للشعر منه للنثر .. كما انه أحيانا يكون التعبير الشعري اقرب وأسهل من النثر لدواعي الإطراب وإنعاش المجلس .. إنها حالة تصيب الإنسان أكثر منها حالة اجتهادية من إرادته .

ثم قال الارتجال لا يعني القوة الشاعرية لدي الشاعر بقدر ما يعني كثرة حفظه .. انه تجميع سريع وإعادة صياغة لما قد قيل وتطويعه للموضوع والمناسبة ثم قال علي البديهة :

أتبكي من تذكرك الديارا .. أم الطيف الملم بنا سحارا

ام البرق اللموع عقيب ليل .. يذكرك الحسان أو المهارا

ثم أردف قائلا هذا ليس شعرا .. انما هو استنساخ سريع لمعان سبق أن قيلت .

احمد فال هو ثالث اخوته .. اخوه الكبير الشيخ : فقيه أديب رئيس قائم بالأمر العام .. بيته مورود .. له معرفة دقيقة برسالة ابن أبي زيد القيرواني .. بطار : لا يقل عن أخويه تحصيلا ومعرفة وسخاء .. عرف بالصراحة والذب عن الحق .. وهو أول من توفي منهم رحمهم الله وبارك في الذرية ومد في أعمارهم .

لا اعرف عن من أخذ الإخوة وأميل إلي أخذهم القرآن عن أسرتي أهل جدو وأهل بوفره والعلوم الشرعية والعربية عن العلامة الأصولي المختار بن ابلول .

أتساءل دائما هل وجد في كتب احمد فال بعض من إنتاجه أو حفظته الذاكرة ..

إنهم رجال لهم ما يميزهم، نمر بهم مرور الكرام في حياتهم وحياتنا .. لكن مع الزمن يبقي تأثيرهم ومآثرهم تفرض علينا أن لا ننساهم .. منهم احمد فال بن ابوه رحمه الله واسكنه فسيح جناته

بقلم الأستاذ : محمد ولد محمذن فال
المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122