معالم الوعي القومي ببعدها النهضوي

2015-06-02 01:08:00

عرفت النهضة العربية الحديثة كتباً أدت دوراً فكرياً أساسياً في تاريخنا العربي، إلا أنها باتت الآن طي النسيان. على هذه الخلفية عمد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى إعادة إصدار المنسي والمفيد من هذه المنشورات، آملاً بردم الهوة بين الأفكار وإعادة الاعتبار لما نسي أو كاد ينسى.

.

في هذا السياق أعاد المركز عام 2015 إصدار كتاب رئيف خوري «معالم الوعي القومي» الذي صدر في طبعته الأولى عام 1941 وكان له اثر في التوجهات الأيديولوجية والسياسية التي عرفها المشرق العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.

استهل خوري كتابه بمناقشة كتاب «الوعي القومي» الصادر عام 1939 للمفكر القومي قسطنطين زريق، آخذاً عليه تأثره القوي بالصوفيات في تعابيره ومعانيه، إذ كثيراً ما يرد كلامه غامضاً جداً، ويغلب عليه فهم المادة والمادية فهماً مبتذلاً، بينما تبقى القضايا الأساسية التي طرحها في كتابه مؤجلة ومعلقة. فالقومية وأسسها، ومسألة الحزب الواحد أم الأحزاب المتعددة، ورسالة العرب، وفلسفة العقيدة القومية العربية، وأسباب التقهقر في ثقافتنا، لا يلم بها زريق سوى إلمامات عابرة بحجة أنها تتطلب دروساً عميقة وتأملات طويلة، كما انه لا يرى القوى المادية، الخارجية والداخلية، التي تشل القومية العربية.

يأخذ خوري على زريق قوله بـ»قومية يهودية» كان للتربية البيتية اثر بيّن في بعثها بعد أن تفرّق اليهود في أنحاء المعمور، فيرى أن اليهود ليس لهم قومية حتى تبعث، لأنهم لا يملكون أرضاً مشتركة. ومع أن المؤلف يوافق زريق بأن القومية وليدة العصر الحديث، إلا انه ينبه إلى القوى الاقتصادية وتعاظم الإنتاج وتقدم وسائله منذ الثورة الصناعية، الأمر الذي أعان على تعجيل وحدة الثقافة والعادات وخلق الشعور الشامل بـ»الوطن» و»الأمة». ولو أن زريق تأمل في شيء من هذا، لاستطاع وضع يده على أمور اقتصادية في قلب المجتمع العربي لا يمكن للقومية العربية أن تعيش وتنمو معها مهما نكن بلغاء في الوعظ ضد الأنانية والإهمال.

وإزاء موقف زريق الملتبس في ما إذا كان من الأفضل لمصلحة الأمة أن تكون كلها حزباً واحداً أو أن تبقى فيها حرية الأحزاب، يرى خوري أن الأمة ما دامت متعددة الفئات الاجتماعية، فمحتوم أن تتعدد أحزابها. ولجهة فصل الدين عن القومية، وهو ما اقر به زريق بقوله إن الأمة العربية «مختلطة الدم والجنس» يشدد خوري على أن قضية الأمة ليست قضية اصل جنسي، بل إنها، قضية سير تاريخي وظروف ونتائج وموجبات تاريخية.

في رأي خوري أن زريق في رده أزمتنا الاقتصادية إلى أن «بلادنا ضيقة الحدود محصورة الجوانب والأطراف وقد أحيطت بالحواجز والسدود الاصطناعية، التي ضيّقت مجال العمل وقيدت الإنتاج»، لا يجابه المشكلة العظمى الأساسية وهي: التأخر الإقطاعي وحاجة الأقطار العربية وطموح سكانها إلى الحرية والاستقلال. إلا انه يوافقه في ان غاية النهضة القومية هي رفع مستوى الحياة العربية بجميع نواحيها، وانها لا تقتصر على نيل الحرية الخارجية والاستقلال السياسي، بل ترمي الى تحرير افراد الامة من القيود الداخلية، وتوفير اكبر قسط من السعادة والهناء لهم جميعاً، أي الى كمال حياتهم الجسدية والعقلية والروحية.

يخلص خوري في سجاله مع زريق الى بسط رأيه في قضية القوميات، عامة وقضية القومية العربية خاصة، فيذهب الى ان القوميات نشأت مع قيام النهضة الصناعية الحديثة، وتقوّض الإقطاع وغلبة الفكر العلمي. وهي اما قوميات متقدمة تسعى الى التمدد الاقتصادي، وأما قوميات مغلوبة تسعى إلى الانعتاق والنمو، مع ما يترتب على ذلك من تطاحنات حربية من اجل اقتسام العالم. وفي حلبة هذا الصراع يعتبر العرب من القوميات المغلوبة الطامحة الى الحرية، والتي لا بد لها من طليعة نضالية تستمد نواة صفوفها وأركانها من طبقات الشعب وتبني نظرة فلسفية الى الطبيعة والمجتمع والتاريخ.

في سياق هذه النظرة يطرح خوري موقفه القومي العربي. فالقومية العربية قد خرجت من التاريخ بأسس واقعية: بقاع واسعة من الارض، واقعة في قلب الدنيا، مكمل بعضها البعض، وفيها من اسباب الغنى ما لا يحد ولا يستنزف. اذا كان من القومية العربية ما يتجه اتجاهاً رجعياً، فان القومية العربية التحررية هي ثورة تقدمية، هي علم وأخلاق، واحترام حقوق الإنسان وتعاون بين الطبقات. إن العربي هو الذي يشعر انه وارث شعب باسل ذكي أبي يعتز بالانتساب إليه، شعب كان مثال الفروسية والتسامح والتعمير، والشغف بالثقافة، تلقى أمانة الحضارة من أمم العالم القديم فوقى شعلتها وقواها بما أضاف إليها في زمن الخرافة والاضطهاد والانحطاط.

عبرت الثقافة العربية عن ذاتها تعبيراً سخياً في عالم التطبيق، فأبدعت مدناً ومنشآت، وتوصلت الى صنع آلات ناجحة في الزراعة والطب والملاحة والصناعة، وقدمت موكباً من العقول الكبيرة كابن المقفع والخوارزمي وابن الهيثم وابن رشد والفارابي والجاحظ وابن خلدون الذي فتح فتوحاً مدهشة في التحقيق التاريخي، فكانت النور الذي بقي ساطعاً لما انطفأت أنوار الغرب. واستطاعت الثقافة العربية ان تكون في عهد طويل من التاريخ آلة التعبير عن طليعة الحضارة الإنسانية، ومن الحيف الادعاء انها لم تبدع ولم تبتكر.
لكن الشرق العربي، بعد انحطاط العرب، لم يستطع أن يكون سيد نفسه، والسر في ذلك انه كان مجزأ لا يؤلف كتلة واحدة صامدة يمكنها صيانة حياتها الاستقلالية. حين كان الشرق العربي هيئة سياسية واحدة، استطاع ان ينشئ له دولة مترامية الأطراف انغرس لها قدم في الشرق وقدم في الغرب. من هذا المنطلق يدعو خوري إلى اتحاد عربي بين الأقطار الكثيرة المقطعة الأوصال، فالعرب لم ينهضوا نهضتهم الكبيرة فيما مضى إلا باتحادهم، وهم لن ينهضوا اليوم الا باتحادهم أيضاً. تلك هي عبرة التاريخ للعرب ولا ريب في عبره ودروسه.

كرم الحلو

 

المصدر: الحياة

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122