قصاصات من ذاكرة شرطي في الامارت سيدي المختار ولد أحمد

2015-04-21 12:18:00

تحل هذه الأيام الذكرى الـ20 لأول رحلة تقودني إلى الإمارات العربية المتحدة، وهي فرصة لتسجيل بعض الذكريات ولحظات الحنين التي تأتى فجأة ودون سابق إنذار.. فتجعلنى استعيد بعض المواقف وأمررها بمخيلتي بحلوها ومرها ورأسى ينظر للأعلى، وفمي تعلوه ابتسامة صادقة وعيناي تتغرغران بالدموع، وكأني أستمتع بمشاهدة فيلم قصير..

.

بدأت القصة ذات صباح من شتاء عام 1995 قرب المركب الاولمبي حيث مدرسة الشرطة التي كانت يومها قبلة الكثير من الشباب الحالمين بالسفر إلى الامارت للعمل فيما يعرف محليا ب" بوليس الإمارات".

كانت أولى الخطوات تسجيل الملف وهي بحد ذاتها انتصار كبير وخطوة هامة على طريق " الثراء"..

يومها اصبح مكان التسجيل مزارا للعائلات و الاهالى والمتضامنين مع ابنائهم واذكر ان مجموع من سجلوا يزيد على أربعة عشر الف شخص.

جرت الامتحانات والتصفيات ببطئ على الطريقة الخليجية التى تعرفت عليها فيما بعد، فوقع الاختيار على خمسمائة شخص كناجحين.

عند إعلان النتائج اجتاحتني فرحة عارمة بنشوة النجاح والحصول على عمل، وما إن بدأت ترتيبات السفر حتى توارت الفرحة تاركة مكانها للتوجس من القادم، خاصة وأنا أودع والدتى و أخوي الصغيرين يومها، حبيب والشيخ عبد الله حفظهم الله ..

تمنيت لحظتها ان يتم إلغاء الرحلة ولو إلى حين.. لكنها أمنية لم تتحقق..

سافرنا على شكل مجموعتين كنت من ضمن الأولى وكان سفرنا بتاريخ 11/4/95 على متن الخطوط الاردنية كنا فى اول طائرة عربية تمر عبر اجواء "اسرائيل" .

توقفنا قليلا فى عمان وتواصلت الرحلة لنحط بمطار ابوظبي الثانية عشر زوالا تقريبا، كان في انتظارنا بعض المدربين وكان من بينهم واحد يشبه الرئيس السابق هيدالة وقد سميناه بهذا الاسم فيما بعد .

انتقلنا في باصات إلي مركز التدريب المؤقت حيث بدأنا إجراءات الفحوص الطبية التى فشل البعض في تجاوزها بسبب فيروس الكبد وبعض الأمراض الأخرى مع الأسف .

تواصل التدريب ووقع الكثير من المواقف الطريفة أحيانا والمخجلة أحيانا أخرى، سجل أغلبها الصديق العزيز بودربالة في أنظامه المعروفة .

وقد تبين فيما بعد أن هناك الكثير من المستهترين بل ظهر أن من بيننا من لا يقرأ ولا يكتب، مما يدل على أن المسابقة شابها الكثير من العيوب، وهو ما سيكون له بالتأكيد تأثير كبير على اداء هؤلاء وتمثيلهم لموريتانيا من خلال التصرفات والمعاملات والأداء في العمل .

كنا مستعجلين نهاية التدريب لنبدأ رحلة الثراء..!! فبالنسبة لى فان تصرفات أغلب من عرفتهم من الذين يعملون فى الامارات تدل على أنهم يجنون الكثير من المال ويبدو أننى لم أكن لوحدي في هذا الانطباع..

بعد التخرج انتقل كل إلى حيث قادته الأقدار وتم إرسال القسم الأكبر إلى" إدارة الحراسات" فيما نقل آخرون إلى إدارات:

السجون والنجدة والمرور ومناطق اخرى كالعين والمنطقة الغربية..

وفي ميدان العمل التحقنا بقرابة الـ 1500 الموجودين قبلنا في الشرطة فقد اكتتبت الامارات في عامي 81 و86 دورتين كل منهما خمسمائة شخص ، كما اكتتبت داخليا دورة أخرى بنفس العدد أغلبهم من سكان " السمحة ".

و"السمحة" هي عبارة عن "فريج" من الموريتانيين البدو الذين يعملون في مجال التنمية الحيوانية فى اطار التعاون بين البلدين.

كانت نهاية التدريب بداية لمرحلة صعبة من الاحساس بالغربة والفراغ ،،، فالخليج يختلف عنا في كل شيء،،، اذكر أننى كنت إذا رأيت سيارة من نوع " بيجو" أحس كأننى التقيت شخصا اعرفه.

لم يكن الاتصال متاحا كما هو الآن، فالمحظوظ منا من يجد خط البلد بعد خمس ساعات من المحاولات المتواصلة ،،، كنت اتتبع صوت رنين الهاتف حين يلتقط الاتصال باحساس لا يوصف،،، والهواتف النقالة غير موجودة ،،،كنا لا نشاهد التلفزيون الوطني ،،، ولا نجد من الاخبار إلا اشرطة قادمة من الاهل.. كنا نجتمع معا بطريقة صبيانية كل حسب اصدقائه للاستماع لها ،،، صدق او لا تصدق ،،، نعم كان هذا ما يحدث ، فلا خصوصية لأن كل منا بمثابة أخ الآخر وصديقه فهو كل ما يملك.

كان كل واحد منا يعرف أفراد أسرة الآخر وطباعهم مع أنه لم يلاقيهم ولو لمرة واحدة، من كثرة ما يحدث بعضنا بعضا عن اسرته و اهله،،، كنا متحابين بصدق الرجولة وبراءة الطفولة .

كنت رفقة"الشله" نذهب للحدائق والمنتزهات والمتاحف والمعارض، نقوم بكل شيء معا،،، فلا مجال للخلوة والوحدة..

كان أسعد ايامنا يوم توقيع الاجازة السنوية لتبدأ الاستعدادات بشراء الهدايا للأهل والأحبة، ورغم الاختلاف المعماري والحضاري والتنظيمي بين الامارات وموريتانيا إلا أننا كنا نجد متعة لا توصف ونحن نغادرها إلى أرض الوطن.

كانت العطلة تمر كالبرق الخاطف ليبدأ الترتيب للعودة بجمع رسائل الأصدقاء من ذويهم، فلا تستطيع أن تأتي لفلان من دون رسالة من أهله ، ولا لفلان من دون رسالة من فلانة.

وبعد استلام العمل بدأ كل يشق طريقه بنفسه أو بتأثير الأصدقاء،،، في ظل غياب التأطير والتأهيل من طرف البعثة الموريتانية، اللهم إلا من مجموعة من الدعاة وبمبادرات شخصية .

ومع هموم الحياة ومشاغل العمل بدأ البعد والتجافي بيننا، ومع اننى فارقت الكثير من احبتى هناك فمنهم من ضمتهم القبور رحمة الله عليهم ومنهم من ابتعد دون استئذان الا أنني لازلت على اتصال بأغلب هؤلاء..

واذا كنا قد نقلنا اغلب عاداتنا الى هذا البلد فاننى لم ألحظ أي نوع من انواع التمييز بيننا كشرائح أو على حساب اللون، بل كنا نجتمع ونتسامر معا دون اي تمييز..

وفى الحقيقة طيلة فترة عملي فى هذا البلد الطيب لم أسجل أي إقصاء او تمييز ضدي كموريتاني، بل كنا محل ثقة اخواننا الامارتيين حيث كنا نقف خلف المرحوم الشيخ زايد نحمل أسلحتنا المملوءة بالرصاص الحي ، وكنا نحرس السجناء الخطرين و الاماكن الحساسة كالبنك المركزي والإذاعة والتلفزيون والقصور.

و على العكس من ذلك فبعد أن عملت فى ادارة العاصمة لاحظت ان المعيار الوحيد عند هولاء هو حسن الاداء والعمل وهذا ما أدى الى احتلال الكثير من الزملاء لوظائف هامة وحساسة منهم من لا يزال الآن على رأس عمله ولله الحمد.

أما بعض التصرفات الخاطئة فإنها فى أغلبها كانت تأتى بطريقة فردية ومن اشخاص متجنسين ويمكن فهمها في إطار التنافس المشروع بين الجنسيات .

لكن مشكلتنا الحقيقية كانت دائما تأتى من الداخل حيث الأداء الضعيف ان لم أقل المعدوم للسفارة والانتقائية من طرف مسؤولى البعثة الموريتانية ولا غرو فهم يمثلون آنذاك النظام الذي لم أعرف لحد الساعة الوصف المناسب له.

وهنا أسجل المواقف الصادقة وحسن المعاملة التى كنا نلاقيها من طرف الرقيب إسلك رحمة الله عليه وكذلك الرقيب محمد ولد رباح اللذين كانا يعاملاننا كأبناء و إخوة طيلة فترة التدريب ودون أي تمييز.

كانت الجالية فى الامارات يومها إحدى اهم الجاليات الموريتانية فى الخارج من ناحية المردود الاقتصادي ففى تلك الفترة لم تكن لنا جاليات فى انكولا ولا الولايات المتحدة ولا اسبانيا.

وان كانت المكانة التجارية العالمية لمدينة دبي قد فرضت على هذه الجالية بعض هذا الدور، إذ أن اغلب واردات البلد فى تلك الفترة كانت تأتي من دبي.

ولم تكن بعثة الشرطة هي الجالية الوحيدة فى الامارات بل كان هناك قضاة كبار من امثال المرحوم العلامة محمد عبد الله ولد الصديق ، كما عمل بها فريد موريتانيا الدكتور جمال ولد الحسن و بها توفي هو والشاعر محمد ولد عبدي تغمدهما الله برحمته الواسعة ، وغيرهما كثير ، وما تزال مقرا لجالية كبيرة من القضاة والأئمة والإعلاميين.

ولم تكن العودة من الامارات نهاية التاريخ بالنسبة للكثيرين من هؤلاء اذ واصلوا نجاحاتهم وأعمالهم وهاهم الآن يحتلون مراتب هامة في كل مكان من هذا الوطن كل حسب اختصاصه واهتمامه وفقهم الله جميعا.

حضرت قبل فترة هنا في انواكشوط اجتماعا في مقر الهيئة الوحيدة التى شاء لها "الأمن" أن تحمل اسم هذه الجالية فحز فى نفسي كلام صدر من "رئيسها" فلماذا لا نقيم ناد للتواصل واللقاء يجمعنا أو يرتاده على الأقل الذين لا يحملون عقدة الخليج..؟

 

نقلا عن موقع

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122