ديموقراطية الإمام مالك سبب في ظهور الدولة الاسلامية

2015-02-24 10:11:00

عكس ما يعتقده البعض، فإن “داعش” ليست سوى وجه أول لعملة يحتل وجهها الآخر فصيل مناقض ظاهريا، لكنه في العمق يعتمد نفس الآليات والمنطق عبر تقديم قراءة تحتكر الفهم والحقيقة، وتخلط وقائع تاريخية بمبادئ دينية، لتبرير مواقف متطرفة تضع جانبا أية منهجية علمية، رغم أن الطرفين يدعيان “العلم”.

وإذا كان “علم” داعش قد حظي بما يكفي من التغطية والتعرية على هامش جرائمها المنكرة، فإن “علم” الطائفة الأخرى نادرا ما يتم تسليط ضوء النقد عليه، لأسباب ليس هذا مجال التفصيل فيها..

فلا يمكن اليوم أن تتصفح جريدة أو موقعا إلكترونيا هذه الأيام، دون أن تجد موجة من المقالات التي تتحدث عن “الإسلام” أو عن “الدين”، خاصة في ظل “البطولات” التي تصنعها جماعات الدواعش في الشرق والغرب.

أصحاب المقالات ملل ونحل، يعكسون الفسيفساء التي يموج بها المجتمع المغربي (والعربي عموما)، فمن طائفة ترى أن الدين خط أحمر يمنع حتى الاقتراب منه، إلى طائفة ثانية ترى أنه مجرد موضوع “فكري” أو “اجتماعي” من حق كل الأطراف الخوض فيه، إلى جماعات تتناحر من أجل تحديد ما هو من الدين وما ليس منه، وما ينبغي أو لا ينبغي أن يكون منه…

وحتى لا أتيه في التفاصيل، أريد أن أركز في هذه الزاوية المتواضعة، على بعض الملاحظات العابرة بقدر ما يسمح به أفق هذا المقام.

من هذه الملاحظات، أن هناك إصرار على التعامل مع الدين الإسلامي على أساس أنه ليس “علما”، وهذا ما يريح البعض من شرطين على الأقل من شروط العلمية، هما : التخصص واحترام القواعد المنهجية.

بعبارة أخرى، حين يتعامل البعض مع الدين بمنطق “الكلإ المباح”، فإنه يعفي نفسه تلقائيا من كل الضوابط المنهجية والعلمية.

وهنا تتكرر أكثر من “لازمة”، تصب كلها في محاولة القفز على سؤال أساسي ومبدئي مؤداه : هل الدين علم؟

الجواب على هذا السؤال بسيط للغاية لمن يبحث عن الحقيقة، ويتحلى بالموضوعية والتجرد الضروريين في مجال البحث العلمي، وهو أن الدين الإسلامي -تحديدا- موزع على مجموعة من العلوم (علوم القرآن، علوم الحديث، أصول الفقه، الفقه العام،…) وكل علم من هذه العلوم “بحر لا ساحل له”،  وعلى مدى قرون تعاقبت أجيال من العلماء، الموسوعيون منهم والمتخصصون، خلفوا رصيدا ضخما من “المعرفة”، كما أن المناهج التي اعتمدها هؤلاء تعتبر من أدق ما توصل إليه الفكر البشري على مدى تاريخ العلوم الإنسانية.

ولهذا فمن الغريب أن يقفز البعض على هذا “الواقع″، ويسمح لنفسه بتسلق جدران الدين دون التوفر على الأدوات المناسبة والبضاعة العلمية والمنهجية الضرورية، بمبررات وذرائع واهية تتناقض جملة وتفصيلا مع احتكار “المعرفة الحقة وادواتها”.

بطبيعة الحال يتخفى كثير من هؤلاء خلف ستار “العقل” و”العقلانية”، ويثيرون كثيرا من الغبار عبر نقاشات هامشية تتحول إلى صراعات شكلية تستأثر بالجهد والوقت وتعفيهم من الخوض في صلب الموضوع.

وأصدق تعبير عن حال هؤلاء ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه كان يقول: “أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم”.

فلو كان هؤلاء يبحثون عن الحقيقة فعلا، لما اختاروا إطلاق قنابلهم الصوتية عبر الصحف الورقية والإلكترونية، بل لنظموا “مناظرات” مع أصحاب الرأي الآخر، وفق قواعد التناظر التي تواجه الحجة بالحجة وتسعى لنقض النسيج الفكري للمخالف، مع احترام نتيجة “المواجهة الفكرية”، لكن خيارا من هذا النوع لن يكون في صالحهم، ليس لأنهم لا يملكون العتاد الكافي فقط، بل لأن هدفهم الأصلي هو استقطاب الأنوار باي شكل، والتعصب لأفكارهم التي يرون أن كل ما يخالفها أو يناقضها هو مجرد “هرطقة” ..(لكن في الاتجاه المعاكس لمفهوم هذا المصطلح)..

والغريب أن تاريخ الفكر الإسلامي حافل بالمنازلات الفكرية بين مختلف أصحاب الملل والنحل، وفي تراث علم الكلام متسع لمن أراد أن “يتفقه” في أساليب السجال العلمي المنهجي.. البعيد عن الاختباء وراء ستار “القداسة” كما يروج بعض المتهافتين حاليا..

ألم يعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما كتبه أحد كتابه: “هذا ما رأى الله ورأى عمر”، قائلا :”بئس ما قلت، قل : هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر”…

وهذا ما يقودنا إلى الملاحظة الثانية، ذلك أن كثيرا من هؤلاء “العقلانيين” يعتمدون مدخلين لـ”العفس″ في العقل نفسه:

- أولهما ترويج مقولة “إغلاق باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري”، وذلك ليقدموا أنفسهم ضمن فئة “المجتهدين” الذين أعادوا فتح هذا الباب الذي ظل مغلقا لحوالي ألف سنة .

وهذا كلام متهافت جدا لأن المقولة اعلاه حُملت أكثر مما تحتمل، بل أسيء استخدامها عن قصد، وإلا فإن في كتب الفقه الإسلامي طيلة مدة “الإغلاق” من الاجتهادات ما يدحضها ويكذبها.

فإقفال باب الاجتهاد يعني عمليا ومنطقيا، أن حركة التاريخ توقفت، وأنه لم يعد هناك أي تطور يستدعي مسايرة الفقه للمستجدات، بينما الواقع يؤكد أن الأمر لم يتعد محاولة لتنظيم هذا المجال، لمنع الدخلاء والجهلاء من اقتحامه، خاصة في ظل ترامي أطراف الأمبراطورية الإسلامية وتحولها إلى مصب لكثير من الحضارات السابقة، مقابل انقراض أجيال الصحابة والتابعين وتابعيهم.

وعلى كل فمن يدرس هذه المقولة بموضوعية وتجرد، سيكتشف حتما أن استعمالها في عصرنا الحاضر هو من باب “الباطل الذي يراد به باطل”، فالعلماء وضعوا في لحظة معينة، شروطا وضوابط للاجتهاد حتى لا يتحول إلى أداة للتلاعب بالنصوص والأحكام، دون أن يعني ذلك مصادرة حق أحد في “الإبداع″، بل إن الأمر أشبه بالضوابط العلمية التي توضع في كل صنف من اصناف العلم. وإلا فلماذا يشترط التخصص والنجاح في جميع مراحل الدراسة للحصول على تراخيص بمزاولة كثير من المهن التي تتطلب الدقة والمعرفة؟

ولا ننسى أنه حتى الذين برروا مقولة إقفال باب الاجتهاد، بالتعصب لبعض المذاهب، غاب عنهم مثلا أن إسماعيل بن يحيى المُزني تلميذ الإمام الشافعي كان يخالفه في آرائه، وكذلك الشأن بالنسبة لأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني صاحبي الإمام ابي حنفية، دون أن نذكر بما فعله تلاميذ الإمام مالك بتراثه وهذه كانت مؤشرات مبكرة جدا لقطع الطريق على تقديس آراء السابقين حتى لو كانوا من مؤسسي المدارس الفقهية التي كتب لها الاستمرار لحد الآن، وقد نسب لكثير منهم مبدأ “قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب” أو ما في معناه، وهو ما سبقهم إليه عمر رضي الله عنه حين قال:”لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة”.

والعجيب أن ابن عرفة التونسي المالكي (توفي سنة 803 هـ) روى عن أحد شيوخه في المذهب قوله : “لا يخلو الزمان عن مجتهد إلى زمن انقطاع العلم”، أي إلى قيام الساعة..

- أما المدخل الثاني، الذي يحاول هؤلاء التسلل منه، فهو الدعوة لـ”مراجعة التراث”.

بلغة أهل القانون “المراجعة” تعني إلغاء أو تعديل أكثر من 50 في المائة مما تتم مراجعته. ولا أدري على أي منطق يعتمد هؤلاء عند تكرار مثل هذا الكلام؟

فأنت حين تسأل أحدهم ماذا قرأت من هذا التراث الذي تريد “مراجعته”، غالبا ما تكتشف أنه قرأ مقالا لمستغرب هنا أو سمع محاضرة لمستشرق هناك، وبناء على تلك “العجالة” بنى رأيا “نقديا” قاده إلى الاعتقاد بأن التراث في حاجة إلى “المراجعة الشاملة” وليس التنقيح، مع أن كتابا واحدا من هذا “التراث” -كالمدونة الكبرى مثلا التي تعتبر دستور المذهب المالكي (تضمنت 6200 مسألة فقهية في أكثر من 3000 صفحة من الحجم الكبير)- يتطلب عمرا كاملا لمجرد قراءته قراءة متأملة.

بطبيعة الحال، فإن التسطيح والتبسيط، ينسي البعض أن “التنقيح” ضرورة حتمية لأي منتوج فكري بشري، ولكنه لا يعني إلغاء كل ما سبق بجرة قلم، بدليل أن نظريات علمية في الفلك أو الانثربولوجيا مثلا أثبت التطور العلمي خطأها، لكنها مازالت تدرس لحد الآن، بل هناك من لايزال يدافع عنها (نظريات داروين مثلا)، ولم يقل أحد إنها أصبحت متجاوزة.. وإن دراستها مضيعة للوقت..

ولا يقف الأمر اليوم عند بعض من يقدمون أنفسهم كـ”مختصين” (Islamologues)، بل أصبح كل من هب ودب يعتبر نفسه مؤهلا لهذه “المهمة العلمية العظيمة”، فمطرب الحي الذي لا يطرب يريد أن “يراجع″، والراقصة تريد هي أيضا أن “تراجع″، و”الأستاذ” الذي لا يفرق بين إن وكان وأخواتهما يريد أن “يراجع″.. بل لم يعد مفاجئا ان تسمع نفس الخطاب حتى من إعلامي أو سياسي غربي، لا يعرف حرفا واحدا من اللغة الغربية، ولم يقرأ شيئا عن الإسلام في مصادره الأصلية والحقيقية، وهذا عذره على الأقل أنه يعتقد أن نموذجه الحضاري ينبغي أن يفرض على الآخر، بناء على نظرية ابن خلدون حول تقليد المغلوب للغالب.

دعاة المراجعة، يتعاملون مع النصوص والاجتهادات على أساس أنها “منتوج بشري” لم يعد مناسبا للعصر، ويضربون لذلك امثلة يرونها مدعاة للسخرية، ويعينهم في ذلك بعض الدواعش، من قبيل “الشيخ” الذي ألغى في دقيقة واحدة كل الحقائق العلمية، و”أثبت” أن الأرض “ثابتة”، مستدلا بأنها لو كانت تدور فلماذا تطير الطائرة من الشارقة إلى الصين في رحلة تدوم حوالي تسع ساعات، بدل أن ترتفع في الجو وتنتظر ثابتة حضور الصين تحتها للنزول بسلام؟

ألم أقل إنها عملة واحد بوجهين؟…

الملاحظة الثالثة، وهي خلاصة لما سبق تتمثل في كون الدواعش أنواعا، وإن اشتهر منهم الذباحون حاليا، فمنطق داعش في تفسير النصوص، “أصل” مشترك مع كثير من “العقلانيين” بما أن الجميع يعطون أنفسهم حق العمل خارج المنهجية العلمية الدقيقة التي حددتها وطورتها أجيال من العلماء المختصين.

ولا أبالغ إذا قلت إننا ندفع اليوم -بشكل أو بآخرـ ثمن “ديموقراطية” الإمام مالك، وإيمانه بالحق في الاختلاف وبحرية الرأي والتعبير، لأنه كان في مقدوره تجنيبنا كثيرا مما نراه اليوم من كوارث..

ففي كتب التاريخ، أنه لما حج الخليفة هارون الرشيد سمع الموطأ من الإمام مالك، فرغب أن يعلقه في الكعبة ويحمل الناس على العمل بما جاء به، فأجابه الإمام رحمه الله : لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلاد، وكل مصيب، فعدل الرشيد عن ذلك. (رواه أبو نعيم في الحلية).

وقال ابن كثير: طلب المنصور من الإمام مالك أن يجمع الناس على كتابه فلم يجبه.. وذلك من تمام علمه واتصافه بالإنصاف، وقال: إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها…

وفي هذا الموقف درس لمن يشوهون الإسلام بممارساتهم “الداعشية”، ولمن يعتبرون أن “عقولهم” تتفوق بمراحل على عقول أنتجت التراث الذي يريدون مراجعته..

 

ملاي التهامي بهطاط

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122